في 15 يونيو 2011 ، أي بعد ثلاثة أشهر من القصف الذي شنّه حلف "الناتو" على ليبيا، أطلعَ "الاتحاد الأفريقي" مجلس الأمن في الأمم المتحدة على الموقف الأفريقي حيال الهجوم، الذي يشكل في حقيقة الأمر قصفاً تشنّه القوى المعتدية الإمبريالية التقليدية عليها: أي فرنسا وبريطانيا، إلى جانب الولايات المتحدة التي نسَّقت الاعتداء في بادئ الأمر، فضلاً عن بعض الدول الأخرى التي شاركت بدور هامشي. ولا بدّ من التذكير بحصول تدخّليْن في ليبيا. طالب الأول الذي تم تبنيه بموجب قرار مجلس الأمن رقم 1973 في 17 مارس، بفرض منطقة حظر جوي ووقف إطلاق النار واتخاذ تدابير لحماية المدنيين. بعد لحظات قليلة، طُرح هذا التدخّل جانباً إثر انضمام الثلاثي الإمبريالي إلى جيش الثوار، وتأديته دور سلاح الطيران له. في بداية القصف، دعا "الاتحاد الأفريقي" إلى بذل جهود دبلوماسية وإجراء مفاوضات سعياً إلى درء كارثة إنسانية محتملة في ليبيا. وخلال الشهر ذاته، انضمت إلى دعوته مجموعة دول "البريكس" (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا) وغيرها من الدول، بما في ذلك تركيا التي تُعدّ القوة الإقليمية الكبرى في حلف "الناتو". وفي الواقع، لقد كان الثلاثي معزولاً إلى حدٍ كبير في هجماته، الرامية إلى إقصاء الطاغية المتقلِّب المزاج الذي سبق أن أظهروا دعمهم له حين كان نافعاً. وكان الأمل معقوداً على نظام سهل الانقياد يذعن لمطالب الغرب من أجل السيطرة على الموارد الليبية الثرية، وربما، توفير قاعدة في هذه القارة لقيادة الولايات المتحدة لأفريقيا (أفريكوم) التي ينحصر مركزها حالياً في مدينة شتوتجارت. لا يستطيع أحد التكهُّن إنْ كانت الجهود السلمية نسبياً التي ناشد بها قرار الأمم المتحدة رقم 1973، ولقيت دعم معظم دول العالم، ستنجح في تجنيب الخسائر الهائلة في الأرواح والدمار التي أصابت ليبيا لاحقاً. في 15 يونيو، أبلغ "الاتحاد الأفريقي" مجلس الأمن أن "تجاهُل الاتحاد الأفريقي طوال ثلاثة أشهر ومواصلة قصف أرض أفريقيا المقدسة يعكس تعالياً وغطرسةً واستفزازاً". وتابع الاتحاد مبادرته عبر تقديم خطة تفاوض وحفظ الأمن والنظام داخل ليبيا بواسطة قوات من الاتحاد الأفريقي، إلى جانب تدابير أخرى لرعاية المصالحة، ولكن من دون جدوى. كما أن دعوة "الاتحاد الأفريقي" لمجلس الأمن طرحت أيضاً خلفية مخاوفه: "لقد كانت السيادة أداة انعتاق لشعوب أفريقيا التي بدأت ترسم مسارات تحويلية لمعظم الدول الأفريقية بعد قرون من الضراوة جراء تجارة الرقيق، والاستعمار، والاستعمار الجديد. وبالتالي، أن الاعتداءات المتهوِّرة على سيادة دول أفريقية هي بمثابة فتح جروح جديدة في مصير الشعوب الأفريقية". يمكن مطالعة الدعوة الأفريقية في مجلة "فرونتلاين"الهندية، إلا أنه بالكاد سُمع عنها في الغرب. ولا عجب في ذلك إذ أن الأفارقة هم من صنف "اللابشر"، في اقتباس لعبارة استخدمها جورج أورويل في وصفه غير المؤهلين لدخول التاريخ. في 12 مارس 2011، نالت جامعة الدول العربية مكانة "البشر" من خلال دعمها لقرار الأمم المتحدة 1973. ولكن سرعان ما تلاشت هذه الموافقة حين سحبت الجامعة دعمها للقصف الذي شنّته دول الغرب على ليبيا. وفي 10 مارس 2011، استرجعت "الجامعة" مكانة اللابشر- لدى البعض في الغرب- بعد مناشدة الأمم المتحدة أيضاً بفرض منطقة حظر جوي على غزة ورفع الحصار الإسرائيلي، الذي يتجاهله الغرب فعلياً. إنها مسألة أخرى تطرح علامة استفهام منطقية. الفلسطينيون يشكلون نموذجاً تقليدياً من "اللابشر "وهذا ما نشهده بانتظام من خلال الممارسات الإسرائيلية ضدهم. لنأخذ على سبيل المثال عدد نوفمبر/ديسمبر من مجلة "فورين أفيرز"، التي أوردت في صفحاتها الأولى مقالين حول النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني. المقال الأول كتبه المسؤولان الإسرائيليان يوسف كوبرفاسر وشالوم ليبنر، ملقيان فيه اللوم في استمرار النزاع على الفلسطينيين بسبب رفضهم الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية (واستناداً إلى المعيار الدبلوماسي: الدول يُعترف بها إنما ليس القطاعات المتمتعة بامتيازات في داخلها). أما المقال الثاني للعالم الأميركي "رونالد أر كريبس"، فينسب المشكلة إلى الاحتلال الإسرائيلي، وعنوانه الفرعي: "كيف يدمِّر الاحتلال الدولة". أي دولة؟ إسرائيل طبعاً المتضرِّرة من إحكام قبضتها على أعناق اللابشر. إليكم مثال آخر: في شهر أكتوبر 2011، هلَّلت عناوين الصحف بإطلاق سراح جلعاد شاليط، الجندي الإسرائيلي الذي اعتقلته حركة "حماس". كان المقال الوارد في "نيويورك تايمز ماجازين" مخصَّصاً لمعاناة أسرته. لقد تم الإفراج عن شاليط مقابل مئات اللابشر، الذين لا نعلم عنهم الكثير، باستثناء الجدل الجدي الذي أثير حول إن كان إطلاق سراحهم قد يلحق الضرر بإسرائيل. كما أننا لم نعلم شيئاً عن مئات المعتقلين الآخرين في السجون الإسرائيلية خلال فترات طويلة، من دون توجيه أي تهمة إليهم. ومن بين المساجين غير المذكورين، الأخوان أسامة ومصطفى أبو معمر، المدنيان اللذان اختطفتهما القوات الإسرائيلية بعد توغلها في مدينة غزة بتاريخ 24 يونيو 2006، قبل يوم من اعتقال شاليط. وكان الأخوان قد "اختفيا" آنذاك في نظام السجون الإسرائيلية. وأياً كانت وجهة نظرنا حيال اعتقال جندي من جيش معتدٍ، يبقى اختطاف المدنيين بصراحة جريمة أكبر بكثير في خطورتها، إلا إذا كان المخطوف من صنف "اللابشر" بكل بساطة. مما لا شك فيه أن هذه الجرائم لا تُقارن بغيرها الكثير، ومن جملتها الهجمات المتصاعدة على الفلسطينيين في إسرائيل، الذين يعيشون في صحراء النقب جنوب البلاد، وهؤلاء يجري طردهم مرة أخرى بموجب برنامج جديد يهدف إلى تدمير عشرات القرى البدوية التي كانوا جُلبوا إليها سابقاً. ولأسباب حميدة، بطبيعة الحال. فقد شرح مجلس الوزراء الإسرائيلي أن عشر مستوطنات يهودية ستُبنى هناك "من أجل استقطاب مجموعة سكانية جديدة إلى النقب" – أي، استبدال "لابشر" من وجهة نظر الإسرائيليين- بأشخاص شرعيين. مَن الذي قد يعترض على هكذا مشروع؟ ويمكن أن نجد نسل "اللابشر" الغريب في كل مكان، وحتى داخل الولايات المتحدة: في سجونها التي تشكل فضيحة دولية، ومطابخ الطعام، وأحياء الفقراء المتهالكة. إلا أن الأمثلة مضلِّلة، إذ إن سكان العالم أجمع يتأرجحون على حافة ثقب أسود. وثمة ما يذكِّرنا يومياً بذلك، حتى الأحداث الصغيرة جداً، على غرار ما حصل الشهر الفائت حين جمَّد "الجمهوريون" في مجلس النواب الأميركي إعادة تنظيم غير مكلفة عملياً لاستقصاء أسباب الظروف القصوى لأحوال الطقس خلال 2011، وتوفير توقعات جوية أفضل. لقد خشي "الجمهوريون" من إمكان أن يفتح هذا القرار ثغرة لبَثّ "بروباجاندا" حول الاحترار العالمي الذي لا يُعدّ مشكلة بحسب مجموعة المعتقدات الافتراضية التي ينشرها المتنافسون لتسمية مرشَّح لما كان منذ سنوات عدة حزباً سياسياً أصيلاً. يا لها من أصناف بشرية مثيرة للشفقة. نعوم تشومسكي أستاذ الفلسفة واللغويات بمعهد ماساتشويتس للتقنية ينشر بترتيب مع خدمة "نيويورك تايمز"