أكتبُ هذا المقال من دبي قبل يوم واحد على توجه ناخبي ولاية كارولينا الجنوبية إلى صناديق الاقتراع. ولئن كان من الأفضل الانتظار حتى وقت متأخر من ليلة السبت ريثما يتم عد الأصوات وفرزها، إلا أن ضرورة الالتزام بالمواعيد حتمت خلاف ذلك. ومع ذلك يمكن القول إن هذا ليس مهمّاً أيضاً على اعتبار أن الملاحظات الخاصة التي أود الإشارة إليها في هذه السطور لاتعتمد على نتيجة تلك الانتخابات. فلا فرق إن قرر الناخبون الجمهوريون منح تطلعات الرئيس الأسبق لمجلس النواب نيوت جينجريتش الرئاسية دفعة في اللحظة الأخيرة، أو قرروا وضع حد لمعاناة الحزب ومنح الحاكم السابق "ميت رومني" فوزاً حاسماً قد يساعده على انتزاع ترشيح الحزب له. لا فرق لأن قصة هذا السباق التمهيدي الجمهوري كُتبت منذ بعض الوقت. وباختصار، يمكن القول إنها كانت مصدر حرج كبير بسبب تناحر الإخوة الأعداء أكثر من كونها مجرد انتخابات تمهيدية حزبية. وفي غضون ذلك لحق ضرر حقيقي بكل من الحزب الجمهوري نفسه ومن ورائه البلاد كلها. لقد كان واضحاً منذ البداية أن حركة "حفل الشاي" واليمين الديني سيفككان الحزب الجمهوري؛ غير أن رؤية ذلك يحدث كانت أمراً صعباً. وقد كان ضحاياهم الأولين الحكام الجمهوريين "الذين كان عليهم الترشح" ويتميزون بقدر أكبر من الحنكة والصلابة ولكنهم اختاروا ألا يدخلوا السباق. ثم يليهم المرشحون غير الناضجين "الذين لم يكن عليهم الترشح" ومع ذلك تم رمي كل واحد منهم إلى صدارة هذا الميدان الباهت لفترة قصيرة من الوقت، ليذلوا ويرغَموا على الانسحاب، عندما أصبح واضحاً أنهم "ليسوا مستعدين بعد لوقت الذروة". غير أن "رومني" هو الذي يدفع أغلى ثمن، وثمة شيء محزن في الواقع حول قصته في هذه الانتخابات. فهو المثال الكلاسيكي لمن "وُلد وفي فمه ملعقة من ذهب"، لأنه ابن السلطة والمال، إن صح التعبير. ولأن الأشياء الأخرى متساوية، فإن المرء كان ربما سيعتقد أن "رومني" سيمثل "المرشح الجمهوري المثالي" لولا "عيبين" اثنين: انتماؤه إلى طائفة المرمون، وتحوله السياسي إلى التيار المحافظ على نحو يعتبر غير مقنع في نظر العديد من المتشددين. وبينما يشاهدُ المرء "رومني" في المناظرات التلفزيونية يرد على تحدي مرشحين أقل منه، يستطيع أن يرى في عينيه، خلف قميصه الأبيض وابتسامته العريضة، مزيجاً من اليأس والغضب، ولسان حاله يقول: "لقد كابدتُ طويلًا وكنتُ الفائز الحتمي على مدى عدة أشهر والآن يحدث لي هذا". فما يعرفه "رومني" هو أن كل هجوم يتسبب في جروح وإراقة دم، وأن استمرار الهجمات يمكن أن يكون قاتلاً. ومع هذا أعلمُ أن عالم السياسة صعب، غير أنه لم يسبق لي أن رأيت خلال العقود الطويلة التي تابعت فيها الحملات الانتخابية التمهيدية الأميركية، جمهوريين يتصرفون على هذا النحو. وهناك تعبير مأثور يقول: "إن الديمقراطيين يتحابون، والجمهوريين يرصون الصفوف". ومن الناحية التاريخية، فإن الديمقراطيين هم الذين عرفوا أكثر الانتخابات مرارة واحتداماً، قبل أن يتصالحوا ويتعانقوا في مؤتمرهم الحزبي ليلتف فيه أنصار الحزب حول مرشحهم الجديد. غير أننا لا نقصد بهذا القول إن الجمهوريين لا يتقاسمون البغضاء أحياناً. كلا، ولكن في معظم الأحيان كان الجمهوريون يحاولون الالتزام بما بات يعرف بـ"وصية ريجان الحادية عشرة" ومضمونها: "عليك ألا تهاجم زميلاً جمهوريّاً". ثم إنه عندما يحدث ويهاجم جمهوري زميلاً له، فإن ذلك كثيراً ما كان يحدث على نحو خفي ومتكتم -من دون بصمات (تذكروا هنا حملة الإشاعات التي أطلقها فريق بوش حول إنجاب ماكين لطفل غير أبيض قبيل انتخابات كارولينا الجنوبية التمهيدية عام 2000). وعلى أي حال، فبحلول الوقت الذي تصدر فيه مؤسسة الحزب قرارها، فإن قاعدة الحزب الجمهوري تستجيب عادة، فتوقف هجماتها و"ترص الصفوف" دعماً لمرشح حزبها. والواقع أن السباق الرئاسي لهذا العام بدأ على نحو متحضر إلى حد ما؛ ولكن مجموعة من العوامل التي شملت مرشحين يائسين، والرغبة القوية لبعض المتشددين في عرقلة محاولة "رومني" الحصول على ترشح الحزب، وانفجاراً في عدد "لجان العمل السياسي" (لجان تشكلها مجموعات المصالح الخاصة قصد جمع التبرعات المالية لمرشحهم السياسي المفضل) الحبلى بالمال... أسهمت في تغيير الدينامية السياسية لهذه الانتخابات التمهيدية. لقد كانت الهجمات قاسية ومتواصلة. ومع مرور الوقت لم تزدد هذه الهجمات إلا حدة وأصبحت شخصية. ونتيجة لذلك، فإن ضرراً حقيقيّاً قد وقع حيث أظهر استطلاع حديث للرأي صدر هذا الأسبوع أن واحداً من كل ستة جمهوريين قال إنه لن يصوت لمصلحة "رومني" في حال فاز هذا الأخير بترشيح الحزب؛ وأن نصف كل الجمهوريين تقريباً يعتقدون أن المرمون ليسوا مسيحيين؛ وأن أربعة من أصل كل عشرة جمهوريين ما زالوا غير راضين عن المرشحين ويأملون في ترشح آخرين. والأكيد ألا شيء من هذا يمثل شيئاً جيداً بالنسبة لـ"رومني" أو لحظوظ الجمهوريين في نوفمبر المقبل! وهناك ملاحظة أخيرة أود الإشارة إليها وتتعلق بمدى الضرر الذي ألحقته هذه الانتخابات التمهيدية بأميركا نفسها. فمن موقعي هنا في الإمارات (حيث أقوم بتدريس مادة قصيرة لثلاثة أسابيع بجامعة نيويورك في أبوظبي)، أجد أن كل واحدة من المناظرات الجمهورية والحبكة القصصية الغريبة في الواقع التي شكلت ملامح هذه الحملة، جعلت السباق إلى الرئاسة يبدو كحفلة مهرجين أكثر منه سباقاً جاداً لتحديد من سيقود أقوى دولة على وجه البسيطة. فزيجاتهم، وأموالهم، وتشددهم الذي ينم عن الافتقار إلى حس المسؤولية، وخوفهم من الإسلام، وما يبدو رغبة من جانبهم في قول أي شيء تقريباً، مهما كان شائناً وفظيعاً، من أجل نيل رضا أشد المتشددين في حزبهم -كلها أمور أدت إلى حرج كبير يشاهده العالم برمته للأسف. وعليه، فلا يهم من سيفوز في كارولينا الجنوبية -لأن الضرر قد حصل سلفاً على كل حال.