تمر باكستان هذه الأيام بواحدة من أصعب المراحل في تاريخها بسبب الصراع المتواصل بين الجيش والمسلحين من جهة واستمرار المصاعب الاقتصادية الضاغطة من جهة أخرى، يضاف إليها التوتر المستجد بين الحكومة والجهاز القضائي الذي يهدد بإدخال البلاد في أتون من الصراع ينذر بتحويل باكستان إلى دولة فاشلة تلقي بظلالها على الإقليم. لكن الأخطر هذه المرة الأزمة السياسية المستفحلة التي تفجرت إثر نشوب نزاع بين المؤسسة العسكرية والحكومة المدنية برئاسة يوسف علي جيلاني. وهو صراع الذي وإنْ كان قديماً في السياسية الباكستانية، إلا أنه هذه المرة يهدد بمواجهة كبرى بين المدنيين والعسكريين، قد تنتهي ربما بانقلاب عسكري. ومع أن نذر هذا التوتر لاحت قبل فترة من الزمن. وكانت بواعثه موجودة باستمرار إلا أنه طفا إلى السطح بحدة لافتة خلال الأسبوع الماضي، ووصلت الأمور إلى ذروتها عندما انتقد رئيس الوزراء يوسف علي جيلاني القائد العام للجيش، أشرف "برويز قياني"، متهماً الجيش علانية بالرغبة في إطاحة الحكومة المدنية، بل وزادت الأمور تفاقماً بإقدام جيلاني على إقالة وزير الدفاع في الحكومة الجنرال المتقاعد، "نعيم خالد لضحي"، الشخصية القوية في الحكومة المدنية والمدعوم مباشرة من قبل الجيش، لكن الإقالة المفاجئة التي بررها رئيس الوزراء بسوء سلوك وزير الدفاع جاءت في الحقيقية على خلفية الجدل المحتدم في البلاد بسبب ما بات يعرف بفضيحة المذكرة، أو "مذكرة جيت"، التي أرسلها رئيس الوزراء إلى الإدارة الأميركية يطلب فيها التدخل لمنع تنفيذ انقلاب عسكري على الحكومة بعد مقتل بن لادن في مدينة "أبوت أباد" الباكستانية، وما أن أحاط الجيش علماً بهذه المذكرة المثيرة حتى ثارت ثائرته وطالب باعتذار فوري من الحكومة. وحالياً تنظر لجنة تابعة للمحكمة العليا الباكستانية شُكلت على عجل للتحقق من صحة هذه المذكرة والتأكد من المزاعم التي تورط الحكومة المدنية في استجداء التدخل الأميركي منعاً لحدوث انقلاب عسكري، وهي المزاعم التي لو تأكدت صحتها فإنها قد تفضي إلى إقالة الحكومة وخروجها من السلطة. ومنذ تفجر فضيحة المذكرة، تسري إشاعات قوية بقرب تنفيذ انقلاب عسكري يطيح الحكومة، لا سيما بعد الزيارة التي قام بها الرئيس الباكستاني إلى الخارج بدعوى حضور حفل زفاف، والتي فسرها البعض بأنها هروب للرئيس خشية الانقلاب، لكن وفيما عدا فضيحة المذكرة التي أزمت العلاقة بين الجيش والمدنيين، ظهر تطور آخر وضع الجهاز القضائي في مواجهة مع الحكومة، وذلك بعدما هددت المحكمة العليا الباكستانية الحكومة بأنها ستوجه لها تهمة احتقار القضاء إذا لم تسارع هذه الأخيرة إلى إعادة فتح ملف الفساد ضد "زرداري" ومعاودة التحقيق في تفاصيله كما أمرت المحكمة، وكان رئيس المحكمة العليا قد وصف رئيس الوزراء بأنه "رجل غير نزيه" لعدم تنفيذ قرار المحكمة بفتح التحقيق في مزاعم الفساد الموجهة إلى "زرداري"، وهو التطور الذي قد يعصف بالعلاقة بين السلطتين التنفيذية والقضائية ويدخل البلاد في موجة جديدة من الاضطرابات الخطيرة، لا سيما بعدما تعددت الجبهات على الحكومة من مؤسسة عسكرية وجهاز قضائي؛ وترجع فصول المواجهة إلى مجيء زرداري نفسه إلى السلطة، الذي كان بفضل التعاطف الكبير الذي حصل عليه إثر اغتيال زوجته "بنظير بوتر"، وتزامن صعوده إلى السلطة مع الضغوط التي مارستها الولايات المتحدة على الرئيس السابق، برويز مشرف، بتسليم السلطة إلى حكومة مدنية، وهو ما دفع مشرف إلى المصادقة على تشريع مثير للجدل عرف بقانون المصالحة الوطنية، والذي بموجبه تم إغلاق عدد من ملفات الفساد التي كانت تلاحق آصف علي زرداري. والحال أن هذا الأخير معروف في الأوساط الباكستانية بأنه "السيد 10 في المئة" في إشارة إلى العمولات التي كان يتقاضاها من الشركات ويحولها إلى حسابات بنكية في سويسرا، ومنذ توليه السلطة في 2008 أظهرت حكومته عجزاً كبيراً في تفادي الأزمات وعدم قدرة على تحسين الأوضاع لتصبح مثار غضب الشارع ومحط استياء الجيش. لكن اليوم أعادت المحكمة العليا فتح ملف الفساد في العمولات التي كان يتقاضاها زرداري ووجهة أمرها إلى الحكومة في شخص رئيسها يوسف علي جيلاني للتحقق من وجود حسابات في سويسرا، وهو الأمر الذي رفضه رئيس الوزراء على اعتبار أن زرداري يتمتع بالحصانة ولا مجال للتحقيق معه، وقبل استدعاء المحكمة العليا لرئيس الوزراء لعرض مبررات الرفض استبقها بعقد جلسة برلمانية للحصول على دعم النواب لقراره. وبالتزامن مع فضيحة المذكرة، تواجه الحكومة أوقاتاً عصيبة يترقب فيها الجميع الإجراءات التي ستتخذها المحكمة العليا ضد "جيلاني" لعدم تنفيذه الأمر القضائي، كما ينتظر ما إذا كان محاكمة "زرداري" ستنطلق في حال أثبت لجنة التحقيق الخاصة وجود علاقة بين الرئيس والمذكرة الموجهة لأميركا. ولتفادي الصدام بين السلطتين التنفيذية والقضائية يبرز خيار التوجه إلى انتخابات مبكرة التي لا شك أنها ستدعم حظوظ النجم السياسي الصاعد في البلاد، عمران خان، لا سيما وأنه يستفيد أيضاً من دعم المؤسسة العسكرية، وفيما تتعمق الأزمة في البلاد تتوجه الأنظار إلى باكستان بسبب أهميتها في المنطقة وتأثيرها في الإقليم. فرغم الحديث المتواتر في الإعلامين الغربي والهندي عن احتمال حدوث انقلاب عسكري وشيك، تبدو هذه الفرضية بعيدة عن الواقع، إذ رغم ما يتمتع به الجيش الباكستاني من نفوذ باعتباره المؤسسة الأقوى في البلاد، إلا أن صدقيته اهتزت في السنوات الأخيرة، وبخاصة بعد مقتل بن لادن الذي عثر عليه في "أبوت أباد"، لذا تفضل المؤسسة العسكرية تحرك القضاء ضد الحكومة بدل التدخل المباشرة في شكل انقلاب عسكري، هذا بالإضافة إلى الدور المهيمن للجيش الباكستاني حتى في ظل الحكومات المدنية وتدخله التقليدي لرسم سياسات البلد في المجالات الأمن والدفاع والسياسة الخارجية.