في كافة مراحل إدارة العلاقات الدولية ومنذ أن وعينا بأن التاريخ البشري مر بعصور الإمبراطوريات، كانت هناك قوى لها دورها البارز في الحفاظ على التوازن الذي يساعد على عدم انتشار الفوضى العارمة في العالم. النهج الأميركي الحالي في تبني استراتيجية مغايرة لما كانت عليه واشنطن في المراحل السابقة والانسحاب التدريجي من بؤر التماس سواء كانت حروباً ساخنة كالعراق وأفغانستان وباكستان، أو باردة كروسيا والصين، حيث تقاطع وتضاد وتناغم خطوط المصالح المشتركة بين الدول التي تتنافس، أو تتصارع أحياناً لتثبت أقدامها في موقع المصلحة الخاصة بها. وبما أن منظومة الأمن الخاص لكل دولة على حدة تعد من الخطوط الحمراء، إلا أن هذا المفهوم في زمن العولمة أصبح فضفاضاً لأن العالم كله بدأ حضوره في كل الدول، حتى غدا الأمن العالمي ككل يتعرض للاهتزاز إذا ما تعرض الأمن الخاص لأية دولة إلى ما يهدد استقرارها. ولو طبقنا هذا المفهوم على منطقة الشرق الأوسط، وجنوب آسيا ومناطق أخرى محسوبة على القطب الروسي ومتداخلة مابين الدول المتجاورة جغرافيّاً وطبوغرافيّاً، فإن وجود دولة مثل أميركا بعيداً عن نبرة الاحتلال والتوسع الإمبراطوري، مع غلبة المصلحة العامة للعالم في أمنه المعرض لعدم الاستقرار بسبب موجة الحراك العارمة في بعض من مناطق العالم العربي والإفريقي والآسيوي، فإن الضرورة السيادية للعالم تستدعي بقاء بناء منظومة أمنية تمنع المتربصين والمخلين بالأمن الخاص أو العالمي من تنفيذ مآربهم المبيتة لأن حسابهم مع القوة العظمى في العالم والمنسحبة من الساحات الساخنة وفق المصلحة الداخلية لها أوحت بأن الفراغ الذي سينجم عن ذلك يجب أن يُملأ ولو بدولة أخرى لا تملك أدنى معايير التفوق السياسي في التعامل مع القوانين الدولية في الحفاظ على سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية بمبررات واهية لا تخرج غالباً من البعد الأيديولوجي الراديكالي لفرض أجندات لاتخدم أي مشروع تنموي أو حضاري يمكن البناء عليه للمستقبل. ولقد كانت أميركا ولعقود مضت هي العنصر الفاعل في الحفاظ على معادلة الأمن والسلم العالمي، حتى وإن خاضت من أجله حروباً طاحنة في بعض الدول. وبعيداً عن نظريات توازن الرعب التي تستخدم في شأن الأسلحة النووية التي تلوح بها كلما اشتدت نبرات الصراخ الدعائي في بعض الدول، فإن المطلوب هو أبعد من أن تعيش البشرية تحت رحمة "الرعب النووي" حتى تستقيم شؤونها وعلاقاتها بالآخرين. فإذا كانت أميركا اليوم تريد أن تدير العالم من البوابة الخلفية في المستقبل القريب، لأن لديها استحقاقات داخلية تفرضها حمى الانتخابات الرئاسية، وأنها مضطرة للرضوخ لمطالب الشعب، وهذا ما يقوم به أوباما في موجة الانسحابات المرتبطة بمفهوم الاحتلال المباشر وإن كان السبب المباشر أيضاً معروفاً في بعض الأنظمة التي استدعت هذا النوع من التدخل في شؤونها الداخلية. ومع ذلك نقول إن إخلاء الساحة الدولية لقوى تتميز بالراديكالية الصارخة، التي تنبع من أيديولوجيات عفى عليها الزمن، والإصرار من قبل البعض على إحيائها لتتحول إلى نوع آخر من الهيمنة والاحتلال اللذين لا يكون في مقدور بعض الدول الآمنة التخلص منهما منفردة، فوجود قوة مثل أميركا لا يستهان بها على رغم قيود المشكلات الاقتصادية التي تواجهها بسبب الأزمة المالية العالمية، إلا أن الدور الأميركي إلى هذه الساعة المنظورة لا يمكن التخلي عنه للحفاظ على الأمن العالمي والسلم الدولي، من أن يتعرض لأيدي العابثين ممن لا يبالون بشيء غير الأيديويولوجيا حُكماً وحَكماً.