كان للأمر الذي أصدره الرئيس الأفغاني إلى الولايات المتحدة مؤخراً بإغلاق سجن قاعدة "باجرام" الجوية بالقرب من كابل، حيث تحتفظ أميركا بمعتقلين مجهولي الهوية، وقع الصدمة على المسؤولين الأميركيين في واشنطن، رغم أنها ليست المرة الأولى التي تتخذ فيها كابل قرارات من هذا النوع، إذ سبق لكارزاي نفسه أن دعا أميركا إلى وقف عملياتها العسكرية في بلاده بسبب ما اعتبره انتهاكاً للسيادة الأفغانية ولما يصاحب تلك العمليات من قتل في صفوف المدنيين. لكن القرار هذه المرة بإغلاق السجن الشهير جاء على ما يبدو كردة فعل على موافقة أميركا فتح "طالبان" مكتب اتصال لها في قطر، وهو ما اعتبرته كابل محاولة من واشنطن للالتفاف عليها والدخول في حوار مباشر مع الحركة دون التنسيق مع الحكومة الأفغانية، وربما دون إشراكها في المفاوضات المرتقبة. وكان كرزاي قد أوضح للأميركيين في وقت سابق أنه يريد التحكم في عملية التواصل مع "طالبان" والاطلاع على تفاصيلها لأن التمرد الذي تقوده "طالبان" يجري في بلده وليس في بلد آخر، ومن ثم يحق له ولحكومته أن يكونا في صلب عملية التفاوض. والأكثر من ذلك، أن كرزاي يريد التحكم في موعد انسحاب القوات الأميركية من بلاده والطريقة التي سيتم بها ذلك، فيما تصر إدارة أوباما التي أعلنت أنها تريد المغادرة خلال السنة الجارية، رغم معارضة البنتاجون لهذا القرار وتفضيله البقاء لمدة أطول... على التحكم في عملية الانسحاب والتفاوض مع "طالبان". فقد جربت الإدارة الأميركية إشراك حكومة كرزاي في المفاوضات مع "طالبان" فقط لتتعثر العملية. وجاء هذا القرار الأفغاني بتسليم أميركا سجن "باجرام" إلى سلطات كابول في أعقاب إغلاق باكستان خلال العام المنصرم طريق الإمدادات الحيوي الذي يوصل المؤن إلى القوات الأميركية في أفغانستان والمعروف بممر "خيبر"، وذلك بعد عمليات متعددة لطائرات أميركية من دون طيار اخترقت المجال الجوي الباكستاني دون ترخيص، وأدت إلى قتل عدد من الجنود الباكستانيين في إحدى الغارات الجوية، فضلاً عن عملية اغتيال بن لادن التي تمت دون علم الجيش الباكستاني. وفي هذا السياق يرى البعض في أميركا أن أفغانستان وباكستان ناكرتان للجميل لأنهما لا تقدران الحروب الأميركية ذات النوايا الحسنة على أرضيهما، ويدعمهم في هذا الطرح الغريب بعض أعضاء الحزب الجمهوري الذين يجادلون بأن أي انسحاب دون تحقيق نصر واضح سيثير ضجة كبرى في صفوف الحزب الجمهوري، رغم أن الجميع يعرف -باستثناء الجمهوريين ربما- أن الانسحاب سيقع عاجلاً أم آجلاً، وأن الولايات المتحدة ستضطر للخروج من أفغانستان، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، مع تولي القادة الأفغان مسؤولية بلادهم، أكان ذلك بدعم ورعاية المخابرات الباكستانية، أو حتى الهندية، لذا فكل المحاولات الأميركية للاستمرار في أفغانستان هي عديمة الفائدة. فما الذي يمنعنا من أخذ كلمات كرزاي على محمل الجد والمغادرة فوراً؟ الحقيقة أن البنتاجون غير متحمس لهذا السيناريو، فهو لا يريد أقل من خروج مظفر بدل المغادرة السريعة والمحرجة، كما حصل في العراق، فهناك وحتى نكون صرحاء ما حدث هو تخلي أميركا عن العراق ليسقط في أيدي السياسيين الشيعة وحلفائهم الإيرانيين. ومع أن الولايات المتحدة كانت مستعدة للبقاء لمدة أطول في العراق، فإن رغبة واشنطن في التعامل مع جنودها وكأنهم فوق القانون العراقي دفع البرلمان إلى رفض خطة التمديد، هذا ناهيك عن أن السياسيين الجمهوريين في الولايات المتحدة لا يريدون إصدار أوامر بالمغادرة للأميركي المعتد بنفسه من قبل بلدان تابعة، دورها تلقي الأوامر وليس إصدارها. هذا العبث الأميركي لا يقتصر على السياسة الخارجية، بل يمكن رصده أيضاً في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري الجارية حالياً، فهل يعقل أن حزباً أميركياً كبيراً هو حزب إبراهام لنكولن، يقدم مرشحين غير مؤهلين تماماً لشغل المنصب العام، كما تكشف نقاشاتهم المستفزة حول السياسة الخارجية؟ ولنأخذ على سبيل المثال، ميت رومني الذي سُئل: كيف سيحل قضية الشرق الأوسط، فقال إنه سيذهب إلى إسرائيل ويسأل نتنياهو عن الحل! اعتقاداً منه على ما يبدو أن الحلفاء يعرفون مصالح أميركا أكثر منها! وفيما يطالب المرشحون الجمهوريون جميعاً بإلغاء الاحتياطي الفيدرالي الذي يقوم بدور مهم في الاقتصاد، فإنهم بالمقابل يعجزون عن طرح البديل، أما المرشح الآخر، "دونالد ترامب" القادم من عالم المال والأعمال فقد أبدى حماقة منقطعة النظير عندما سئل عن رأيه حول العراق، حيث قال إنه من غير المعقول انسحاب القوات الأميركية من العراق دون السيطرة على نصف النفط العراقي كنوع من المكافأة على غزو أميركا لتلك البلاد! والأكثر تفاهة من ذلك هو إجماع المرشحين الجمهوريين على ضرورة شن حرب ضد إيران بذريعة برنامجها للسلاح النووي الذي لم يُثبت وجوده بعد؛ فالجميع يبدو متأكدين من أن إيران ما أن تمتلك السلاح النووي حتى تستخدمه فيما يشبه الانتحار الوطني، وهكذا يتعين على رئيس الولايات المتحدة، في رأي هؤلاء المرشحين، منع إيران من الانتحار، وذلك بالهجوم عليها والدخول في حرب ثالثة في المنطقة! فهل هناك عبث أكثر من ذلك في السياسة الأميركية؟ ويليام فاف كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفس"