"حسن السؤال نصف العلم"، قول مأثور في تراثنا الإسلامي، ونصف العلم كثير في أسئلة المجتمع الأكاديمي السعودي الذي يخوض هذه الأيام أوسع النقاشات في تاريخ المجتمعات الأكاديمية العربية، وأكثرها تنوعاً. مواضيع كالنشر العلمي، وتصنيف الجامعات، وأخلاقيات البحث، والحدائق العلمية، ووديان التقنية، ومراكز التميز والإبداع، وبراءات الاختراع، والتعليم العالي للفتيات، وعدد الطالبات المستجدات في العام الحالي (109 آلاف طالبة مقابل 103 آلاف طالب)، وتطوير معايير قبول الطلاب في الجامعات البالغ عددها حالياً 24 جامعة حكومية (تضم 432 كلية) إضافة إلى 4 جامعات أهلية. وتنتظر البحث الجامعات الإلكترونية التي تدخل لأول مرة ميدان التعليم العالي، كـ"جامعة طيبة" في المدينة المنورة، التي أنشأت أكثر من خمسين مقرراً دراسياً إلكترونياً، وفصولاً افتراضية، وأطلقت أخيراً فضائية لبث المحاضرات لأكثر من 60 ألف طالب. وإذا لم تكن تتوقع اللا متوقع فلن تجده في السعودية التي خصصت للتعليم 24 بالمئة من موازنتها العامة للسنة الحالية، والبالغة 184 مليار دولار. حصة الأسد من نصيب "جامعة الملك سعود" بالرياض التي حصلت على أكثر من ملياري دولار، وأكثر من مليار لـ"جامعة الملك عبد العزيز" بجدة، ونحو نصف مليار لـ"جامعة الملك فهد للبترول والمعادن" بالظهران. وما اللا متوقع في موجة الابتعاث للدراسة في الخارج، والتي سجلت فيها السعودية رقماً قياسياً؟ عدد المبتعثين حالياً نحو 60 ألفاً، وإذا حسبنا أسرهم المشمولين بخدمات الابتعاث، بما في ذلك التأمين الصحي، فهناك نحو ربع مليون سعودي في الخارج، يغيرون اليوم الصورة النمطية للسعوديين في العالم، كيف سيغيرون في الغد القريب المجتمع السعودي في الداخل؟ والمثير ليس مضمون النقاشات فحسب، بل طريقة النقاش "البدوية" غالباً. وعندما يتعلق الأمر بمواضيع ساخنة، كالسعودة، فالخطاب وجهاً لوجه. الاقتصادي عبدالله بن ربيعان يتحدى وزير التعليم العالي الذي برر تعيين أجانب في الملحقيات التعليمية بعدم وجود سعوديين قادرين ومستعدين للعمل في الخارج. "مستعد لتوفير الموظفين يا وزير"، عنوان مقال بن ربيعان، الذي أبدى استعداده لتوفير 30 موظفاً سعودياً كدفعة أولى، وبالشروط المطلوبة. "فمن يكره العيش في الرباط ولندن وواشنطن والقاهرة وطوكيو"! وسيارة "غزال" التي تطرحها "جامعة الملك سعود" في العام المقبل، ويُفترض أن تحظى بالشعبية، تهدد بأن تصبح موضوعاً للتهكم. محمد بن حمد القنيبط، الأستاذ في جامعة الملك سعود، وعضو المجلس الاستشاري السعودي سابقاً، قال إنها سيارة مرسيدس "جيب طراز G" عملت لها الجامعة قليلاً من "المكياج" بمساعدة شركة إيطالية، وقالت إن 55 مهندساً سعودياً "صنعوا" هذه السيارة، وتبيعها بسعر مضحك: 35 ألف ريال! فهو أقل من 10 بالمئة من قيمتها التي تتجاوز 400 ألف ريال! واقترح على الجامعة شراء شركات سيارات شهيرة معروضة للبيع بسبب الكساد، وبينها "ساب" السويدية" التي تبحث عمن يشتريها، و"هامر" الأميركية التي أعرض عنها الصينيون رغم سعرها المغري، أو "ساترن" الأميركية التي أغلقت مصانعها بسبب عدم وجود مشتر"! ويستمر النقاش الحاد المفتوح حول التصنيف العالمي للجامعات، والذي أثاره اتهام المجلة العلمية الأميركية "ساينس" الجامعات السعودية بشراء المكانة العلمية. ويعتبر محمد بن عبد الرحمن آل الشيخ، عميد الدراسات العليا بجامعة الملك سعود سابقاً، "المساس بأخلاقيات البحث والنشر العلمي موطن الخلل". وذلك عنوان مقاله في صحيفة "الحياة اللندنية"، والذي نبّه فيه إلى أن "أخلاقيات البحث العلمي من أهم القيم الجامعية، بل هي محور رُقي الجامعات وتطورها عندما تحافظ عليها وتحرسها، وهي أيضاً معول هدم وانتكاسة لأي جامعة تُخِّلُ بها". ودعا آل الشيخ إلى عدم التغاضي عن الخلل الأخلاقي "الخطر جداً مهما كانت الأسباب والمبررات، خصوصاً أنّ جامعة الملك سعود قدوة الجامعات السعودية والعربية". هل هذه بواكير رياح التغيير العربي التي يتوقع الباحثون أن تطلقها المجتمعات الأكاديمية العربية؟ الباحث العربي أندريه إلياس مزاوي، أستاذ التربية في جامعة كولومبيا البريطانية في كندا، يذكر في بحثه "الربيع العربي وثورة التعليم العالي المنتظرة"، أن تعلب مؤسسات التعليم العالي في العالم العربي "دوراً أساسياً في دعم إنتاج صورة ذاتية مطلوبة للنظام بوصفه حكماً صالحاً". ويدعو المزاوي، في بحثه المنشور بصحيفة "التعليم العالي العالمي"، الأكاديميين العرب "إلى تحويل أدواتهم البحثية إلى داخل الجامعة عن طريق التفكيك النقدي لأسس بنية التعليم العالي التي يعملون بها، من أجل صياغة مجددة لعلاقة التعليم العالي بالسلطة الرسمية". وكما ترينا نقاشات الأكاديميين السعوديين، فعلاقة التعليم العالي بالحكومة أشد تعقيداً من الصورة الشائعة للتغيير العربي، والتعليم العالي السعودي أكثر من أي منظومة عربية تداخلاً وتأثراً بالشبكة العالمية للتعليم العالي. والموضوع الذي يتحدى الجامعات الغنية، هو القفزة الجامعية الصينية وتأثيرها على المجتمعات الأكاديمية العالمية. فجامعات الصين تُخّرج حالياً ربع مليون مهندس سنوياً، مقابل 25 ألفاً في بريطانيا. وفي غضون السنوات الخمس القادمة ستملك الصين ما لا يقل عن عشر جامعات في مستوى جامعات النخبة الأميركية. ذلك ما قاله جوزيف ستيجليتز، الحائز على نوبل بالاقتصاد. ما تأثير دخول الجامعات الصينية سوق التعليم العالمية على "هارفارد" التي لجأت في مواجهة الأزمة المالية إلى توظيف أموال طائلة في مضاربات لشراء مزارع ضخمة في أفريقيا قد تشرد الآلاف من سكانها الأصليين؟ ذكر ذلك تقرير أعده باحثون في "معهد أوكلاند" بكاليفورنيا، كشف عن توظيف جامعات وكليات أميركية عدة بينها "هارفارد" و"فيندربلت"، نحو 500 مليون دولار في عمليات استحواذ كبرى على أراض زراعية خصبة في أفريقيا. تحقق هذه الاستثمارات التي تجري عبر شركة إدارة أموال بريطانية تُدعى "إيميرجنت"، مردودات بنسبة 25 بالمئة. وذكر التقرير أن الصحافة الغربية تتهم العرب والصينيين والهنود بعمليات "نهب الأراضي" في أفريقيا لتأمين الحصول على منتجات زراعية قليلة الكلفة لسد حاجاتهم الغذائية، فيما تُستثمرُ في الحقيقة أموال غربية طائلة تغطي نشاطاتها شبكة كثيفة من الشركات الاستثمارية. وتساءل التقرير "ما عدد الجامعات الأميركية المنخرطة في هذه النشاطات"؟ الجواب حسب التقرير: "وهل يمكن أن نعرف؟". جميعها كما يبدو بما في ذلك الأولى في التصنيف العالمي للجامعات "هارفرد" و"يل" و"ستانفورد"! "إذا فسد الملح فبماذا نُمّلحه؟"... سأل المسيح عليه السلام، والسؤال مطروح على الجامعات المسؤولة عن صيانة القيم الإنسانية، والفكر العلمي العالمي، وفي مقدمتها أغنى الجامعات العالمية، "هارفرد" التي حملت اسم المسيح في شعارها عند التأسس في القرن السابع عشر: "الحقيقة لأجل المسيح والكنيسة" Veritas. *مستشار في العلوم والتكنولوجيا