مازلنا نسمع من آن لآخر أن العالم قد تغير تغييراً جوهرياً، وأن المشكلات التي كانت تشغل بالنا فيما مضى لم تعد تهم، وأن العصر الجديد هو عصر العولمة، والإنترنت، واللاعبين غير الدوليين، وتوزيع القوة، وصعود آسيا، وأفول الغرب، ونهاية الأيديولوجيا، وصعود البراجماتية. صحيح أن العالم والنظام الدولي في حالة سيولة دائمة، ولكن بعض المسائل الملحة هذا العام تبدو مألوفة بدرجة ملفتة للنظر. من بين هذه المسائل: نظام الحكم يهم. يقول واقعيو السياسة الخارجية إنه غير ذي صلة سواء كانت الأمة ديمقراطية أو أوتوقراطية بيد أن الحقيقة هي أن من بين أكبر الموضوعات التي ستحظى بالاهتمام خلال عام 2012 موضوع الدول الذي يمر نظامها بمرحلة انتقالية تتسم بالفوضى والاضطراب. ففي روسيا على سبيل المثال، وبعد أداء هزيل في الانتخابات البرلمانية التي جرت الشهر الماضي، من المقرر أن يواجه بوتين انتخابات رئاسية يمكن أن تلحق به المزيد من الضعف، خصوصاً إذا قام الناخبون بإعطاء أصواتهم لمرشحين آخرين كنوع من الاحتجاج عليه، وحرموه بذلك من الفوز بأغلبية يمكن أن تجنبه خوض انتخابات إعادة. وبصرف النظر عن الطريقة التي سيعالج بها بوتين أزمته، وبصرف النظر عما إذا كان سينجح في ذلك أم يفشل، فإن المؤكد أن رد فعله سيحدد شكل السياسة الخارجية الروسية لحد كبير، ويؤثر بالتالي على النظام الدولي. فروسيا الأكثر ليبرالية ستكون أكثر تلهفاً على إقامة علاقات أوثق مع أوروبا والولايات المتحدة، ومع النظامين السياسي والاقتصادي المفتوحين اللذين تتبناهما تلك الدول، في حين أن روسيا الأكثر سلطوية، المحكومة بقبضة من حديد، ستكون على الأرجح أكثر انعزالاً واعتناقاً للقومية الضيقة. التطورات السياسية في سوريا ستساهم هي الأخرى في صياغة النظام الدولي. فإذا سقط نظام الأسد، فإن إيران ستصبح أكثر عزلة وانكشافاً، كما أن القوى التي تؤيدها على الحدود مع إسرائيل ستجد نفسها مقطوعة، مع ما يمكن أن يترتب على وضع كهذا من تداعيات على سلام الشرق الأوسط. بالنسبة للعراق، ربما يكون قيام أوباما بسحب كل القوات الأميركية من هناك قبل الآوان قد سرّع من تجدد صراع القوى الذين يمكن أن يتحول في حالة تفاقمه لحرب طائفية. من الصعوبة بمكان إمكانية تخيل انحسار مثل هذه الحرب إذا بدأت على العراق، حيث من المتوقع أن تتدخل فيها دول مثل إيران والسعودية وغيرها من القوى الإقليمية من أجل حماية مصالحها في هذا البلد. وفي مصر، لم يتم إلى الآن تحديد معالم المسار السياسي الذي ستتخذه البلاد في حقبة ما بعد مبارك، ولكن الرهانات المتعلقة بذلك هائلة. ومن بين المسائل المطروحة أن "القوة العسكرية تهم". ففي الوقت الذي نسمع فيه الكثير عن القوة"الناعمة" والقوة" الذكية" فإن المفارقة في هذا الشأن هي أن بعضا من أصعب التحديات التي سيواجهها العالم خلال السنوات المقبلة تتعلق بالقوة العسكرية الصماء من الطراز القديم. ومن هناك يجب علينا ألا نبالغ في تقدير الطريقة التي يحبنا بها العالم بسبب مزايانا، وألا نقلل في الآن ذاته من الكيفية التي سيعتمد بها نفوذنا على القوة الصلبة وعلى قدرتنا على توفير الحماية في أوقات الشدائد والمحن. وثمة مسألة تتمثل في أن "أوروبا تهم"، يقولون إن العصر القادم هو العصر الآسيوي... أليس كذلك؟ وأنه عصر ستلعب فيه دول (البريكس) بالإضافة لتركيا، دوراً بارزاً. حسناً... لن يحدث ذلك بالسرعة المتخيلة. ولا يجب أن يغيب عن بالنا أن واحداً من أهم الموضوعات التي ستشغل بال العالم في العام المقبل، ذلك المتعلق بما إذا كانت أوروبا ستتمكن من الخروج من أزمتها الاقتصادية الطاحنة، والبقاء سليمة ومتماسكة بعد ذلك. فهذا الأمر سيهم ليس فقط اقتصاد الولايات المتحدة والاقتصادات العالمية لأن الحقيقة التي لا مراء فيها أن أوروبا ما زالت تمثل لاعباً كبيراً وحيوياً على الساحة الدولية، وأن الاتحاد الأوروبي لا يزال هو صاحب أكبر اقتصاد عالمي. وحقيقة أن معظم- إنْ لم يكن كل جيران الاتحاد الأوروبي- يرغبون في الانضمام إليه حتى في مناخ الأزمة الحالية التي يمر بها تعد أمراً بالغ الدلالة في حد ذاته. أميركا تهم كذلك. التقارير التي تتحدث عن الأفول الأميركي تقارير سابقة لأوانها على نحو لا يصدق ذلك لأن أميركا ما زالت حتى الآن، وعلى الرغم من كل ما يقال هي اللاعب المركزي في مناطق العالم كافة. صحيح أن واشنطن لا تستطيع فرض رؤيتها بشأن كافة المشكلات والقضايا التي يواجهها العالم، كما لا تستطيع تقديم حلول لجميع تلك المشكلات والقضايا، إلا أن ذلك كان هو الحال في السابق أيضاً عندما لم يكن أحد يشكك في هيمنة أميركا وقوتها، ولا ينطبق فقط على الوقت الراهن الذي يدعي فيه البعض أنه يشهد بداية أفول العصر الأميركي. في الشهور القادمة سواء كان الموضوع هو إيران، أو سوريا، أو الأمن الآسيوي، ستستمر القوى الإقليمية في كافة مناطق العالم في اللجوء للولايات المتحدة التماساً للحلول. يرجع ذلك إلى حقيقة أنه لا توجد أمة أو حتى مجموعة من الأمم تماثل، أو حتى تقترب مما تتمتع به أميركا من شبكة أحلاف وعلاقات على مستوى العالم، كما لا يوجد بديل لها كضامن للأمن، ومُدافع عن النظام السياسي والاقتصادي المفتوح والحر، وهو ما يسوغ لنا القول إن عام 2012 سيكون هو العام الذي تكسب فيه أميركا فهماً متجدداً لتلك الحقيقة الدائمة. -------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة"واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس"