الدول القوية والحديثة في عالمنا المعاصر تعمل جهدها لتوظيف تراثها الضخم والعريق وحاضرها المشرق ليخدما مستقبلها، إنّها تناقش ذلك التراث تنتقي منه الأفضل لها في حاضرها، تبني على هذا الأفضل، تطوّره وتحوّله لرصيدٍ مهمٍ وثريٍ لخدمة المستقبل، إنها لا تستأسر له ولا تنام في أحضانه بل تسعى مجدّةً في تجاوزه بقدر ما تستطيع كما أنّها لا تلغيه نهائياً بل يبقى لديها موضع بحثٍ ومصدر اتقادٍ ومنهل تفكير حيث تستخدمه كخزّان وقودٍ دافعٍ -لا معيقٍ- للوصول لأهدافها الحديثة، ويمكن في هذا السياق استحضار الصين والهند كما تركيا وسنغافورة وغيرها. لم أستشهد هنا بدول الغرب، التي ربما رأى البعض أن لها سياقاً حضارياً آخر، كل هذه الدول والأمم فعلوا الأمر ذاته إلاّ العرب وبخاصةٍ الأصوليون الجدد في دول الاحتجاجات العربية فهم يريدون تسيير عربات التاريخ إلى الوراء، لأنهم بلا حلمٍ ولا مشروعٍ حضاريٍ ولا أملٍ في مستقبلٍ زاهٍ فهم يكتفون عقلياً ونفسياً وجمعياً بالتغني بآثار الماضي ومآثره، وأنّهم قد يستعيدونه يوماً لا أقلّ ولا أكثر. بعض الكتّاب العرب يخاطبون قرّاءهم وجمهورهم ويخاطبون الغرب معلقين على تاريخ تركيا وواقعها وتاريخ العرب وواقعهم وكأنهما يمثلان سياقاً واحداً وتاريخاً واحداً وواقعاً واحداً، على الرغم من أن التناقضات التاريخية كبيرةٌ وعميقةٌ بين النموذجين تراثياً وحضارياً وهي في التاريخ الحديث مثلها في الواقع المعاصر، ويكفي هنا استحضار واقع الدولة العثمانية وصراعات النخب العربية ضدّها ونضالات رجالات الشارع تجاهها، حيث كانوا يعدّونها دولةً غاشمةً ومحتلةً أو استعماريةً حسب المصطلح الذي تبلور لاحقاً، ثم استحضار بناء الدولة التركية الحديثة بدستورها الحديث الذي حماه الجيش لعقودٍ ما أدّى لتهذيب طروحات تيارات الإسلام السياسي هناك لتصبح ماهي عليه اليوم. على هذه الخلفية يمكن مناقشة المقارنة التي يروّج لها البعض من تشبيه نماذج الإسلامويين في البلدان العربية المحتجة وعلى رأسهم جماعة الإخوان المسلمين في مصر وفي غيرها من البلدان بالنموذج التركي ليطرحوا سؤالاً مهماً هو هل تستطيع جماعات الإخوان المسلمين العربية أن تقدّم نموذجاً كالنموذج التركي في تونس ومصر واليمن وغيرها؟ يجيب البعض بأنهم قادرون على ذلك ويعلل إجابته بأنّهم وهم البراجماتيون (المصلحيون) حتى العظم الجامحون نحو السلطة منذ ثمانين عاماً لطالما استخدموا الدين للوصول لتلك السلطة يمكن أن يزايدوا على كثير من التيارات الدينية والمدنية باسم الدين تارةً وباسم المفاهيم المدنية الحديثة تارةً أخرى ليرسّخوا أقدامهم في السلطة، ويبرروا كل مواقف سيتخذونها لاحقاً تشبه إلى حدٍ كبيرٍ مواقف الأنظمة السابقة، ولكن باسم الدين وتحت ستاره وشعاره هذه المرة، وللمراقب أن يرصد موقفهم في تونس تجاه المرأة وموقفهم في مصر تجاه المعاهدات الدولية وتحديداً مع إسرائيل في قادم الأيام بعد فوزهم في الانتخابات واستئثارهم بقيادة العملية السياسية برمّتها في بلدانهم. كما يؤكد هؤلاء إجابتهم بأنّ "الإخوان" يستطيعون بحكم جماهيريتهم الكبيرة أن يتحالفوا مع بعض القوى الفاقدة للانتشار والشعبية من الأحزاب العتيقة ذات التاريخ الذي انقضى ومن الأحزاب الشبابية الجديدة غير ذات الخبرة ويوظّفونهم -جميعاً- في برامجهم السياسية الشاملة التي يطرحونها، أو يتخلون عنهم -بكل بساطةٍ- ويتركونهم لمقاعد غير ذات قيمةٍ في مجلس نوابٍ يسيطرون على أغلبيته يمارسون معارضةً لا تسمن ولا تغني من جوع، ولكنها ضروريةٌ لإبقاء الديكور العام للمشهد الجديد. ويضيفون لهذه الإجابة، أنّ "الإخوان" قادرون وبسهولة أثبتتها سنةٌ أولى من الاحتجاجات العربية على ركوب مطية "الحقوق" أو "التيّار الحقوقي" لخدمة مصالحهم وأهدافهم، وهم أقدر على ركوب تيارات "الديموقراطية" بتحوير متقنٍ لشعاراتها وتحريفٍ متعمدٍ لمفاهيمها ورؤاها الكبرى. كما يراهنون بالإضافة لما مضى على تحوّلاتٍ جديرةٍ بالاهتمام لمواقف جهاتٍ متعددةٍ تجاههم هي: أولاً: مثقفون سينتقلون من مواجهتهم لمهادنتهم إن من مثقفي التراث الإسلامي وإن من المثقفين المنخرطين في الثورات وثانياً: مواقف الدول الغربية والعربية تجاههم. غير أنّ آخرين كثر يقدّمون إجابةً مختلفة، ويرون أنّ الإسلامويين العرب غير قادرين على تمثّل النموذج التركي، ويقدّمون بين يدي إجابتهم موقف "إخوان مصر" وحزب "النهضة" التونسي تجاه تصريحات رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان المنادية بالعلمانية حين زيارتيه الشهيرتين لمصر وتونس. ثم يشيرون إلى أنّ المزايدات الأيديولوجية ستنتعش سوقها في عهود الثورات أو الاحتجاجات الكبرى والإخوان المسلمون حين يفقدون وهجهم الأيديولوجي سيخسرون الكثير بتخلّيهم عن أدبيّاتهم الأيديولوجية الصارمة وانحيازهم لخياراتٍ سياسيةٍ براجماتيةٍ تستوجبها قيادة الدولة ما سيثير عليهم الكثير من المزايدات من قبل جهتين: السلفيون: وهم حاضرون كقوةٍ سياسيةٍ ثانيةٍ في مصر وليبيا واليمن، والتيارات الشبابية: التي أدمنت المظاهرات والاعتصامات وتعتقد أنّ ثورتها تمّ خطفها من قبل جماعاتٍ دينيةٍ منظمةٍ هي أعرق منهم في السياسة وأكثر تمرّساً في الحشد والتنظيم. كما يؤكد هؤلاء أنّ بنية هذه التنظيمات "الإخوانية"، لا تختلف كثيراً عن بنية الأنظمة الجمهورية التي ثار عليها الشارع وقطفت هذه التنظيمات ثمارها، حيث الترهّل والمركزية والاستبداد والعنف، ويستحضرون ترهل هذه الجماعة واستبداد مؤسسها حسن البنّا ضد معارضيه، فهو منذ البدايات لم يكن رافضاً للعنف ضد معارضيه داخل الجماعة فضلًا عن غيرهم، وكمثال على ذلك فعندما اختلف معه بعض "الإخوان" حول من يخلفه في الإسماعيلية تجمع عدد من أصدقاء المرشد "واعتدوا على المنشقين بالضرب وقبض عليهم وقدموا للمحاكمة" ويعلق البنّا على هذه الحادثة مؤيداً لاستخدام العنف ضد مخالفيه "فإن من يشق عصا الجمع، فاضربوه بالسيف كائناً من كان" (مذكرات الدعوة والداعية). كما يشيرون في معرض الإجابة إلى انشقاقاتٍ داخل "الإخوان" بدأت مع المؤسس البنّا كما سبق، وانشقاق رفيق دربه أحمد السكّري لاحقاً، وكذلك بالصراع الذي تمّ بين جناحي الإخوان التاريخيين: جناح سيّد قطب وجناح حسن الهضيبي مروراً بانشقاق أبو العلا ماضي وصولاً للإنشقاقات الحديثة حيث نائب المرشد السابق محمد حبيب وانشقاق عبدالمنعم أبو الفتوح وكذلك لانشقاقاتٍ شبابيةٍ انحازت -خلافاً لقرارات الجماعة- للمحتجين في ميدان التحرير في بداية الاحتجاجات قبل عامٍ كما في غيرها بعد إسقاط النظام السابق، وهي احتجاجاتٌ تتسع ولا تضيق تكبر ولا تصغر. من المهم في هذه المرحلة استحضار هذا النقاش حول نماذج الإسلام السياسي العربي وتمحيص مواقفها ودرس خياراتها والتعمّق في فهمها، لأنّها بكل بساطةٍ قد انتقلت من كونها جماعاتٍ دينيةٍ طامحةٍ للسلطة ومغرقةٍ في العمل السرّي الغامض إلى أحزابٍ سياسيةٍ حاصلةٍ على أغلبية في مجالس النوّاب ترسم الخطط وتبني الاستراتيجيات وتقود السياسيات المعلنة لدولها داخلياً وخارجياً. أخيراً، لم تزل بنية الثقافة العربية حضارياً أضعف من غيرها من الأمم المتقدمة في واقعنا المعاصر، وما لم يتمّ تطوير هذه البنية باتجاه التحضّر والتمدّن فسيظلّ العرب إما يراوحون في مكانهم وإما يسيرون القهقرى لماضٍ كان زاهياً يوماً ولكنّ استعادته مستحيلة. عبدالله بن بجاد العتيبي Bjad33@gmail.com