ختمت مقالي السابق "عام يختزل التاريخ ويرسم المستقبل" بالتحذير من المغامرة بالتنبؤ في مجال السياسة لأننا سنخطئ ونفشل، بسبب عجزنا عن توقع الأحداث التاريخية، على نحو ما أذهلتنا أحداث عام 2011. وهي أحداث لم يتوقع حجمها وعمقها وتداعياتها ونتائجها التي لا تزال غير محسومة بعد، أحد من المسؤولين أو أجهزة الاستخبارات والباحثين والأكاديميين سواء من العرب أو الغربيين، وقد تركت ثقوباً كبيرة في نظريات العلوم السياسية والاجتماع السياسي ومناهج استشراف التطور التاريخي. ومع ذلك سأدلي بدلوي هنا حول مستقبل بعض الظواهر المسجلة في العام المنقضي. ولاشكّ أن عام 2011 سيخلد باعتباره عام التحوّلات والتغيّرات الكبيرة، وعام تمكين الشعوب وتحطيم القيود والثوابت وانتشار الحريات وإعادة توزيع أدوار القوة. وبكلّ المقاييس يُعدّ عام2011، عاماً تاريخيّاً ومفصليّاً سيؤسّس لما بعده، خاصة إذا ما استمرت ظواهره في التقدّم والتمدد والتطور في عام 2012 لتحقيق الإنجازات والأهداف التي لم تحسم وتنجز خلال العام المنقضي. وقد رصدت سبع ظواهر مهمة ومؤثرة جدت في عام 2011، وإذا وصلت هذه الظواهر السبع لخواتيمها فستؤسس لحقبة وأنظمة جديدة ومختلفة نهجاً ومضموناً عما عهدناه لعقود من الزمن. الظاهرة الأولى كانت انحسار روح التفكك، إذ على رغم بدء التقسيم والتشرذم والتفتيت في العالم العربي بدءاً من السودان الذي أصبح سودانين، إلا أن تلك الظاهرة سرعان ما تراجعت أمام ظاهرة الحراك الثوري العربي الواعدة بتمكين بعض الشعوب وتخليصها من عقود من الظلم والتهميش والحكم المطلق لكثير من الأنظمة. وقد شهد عام 2011 ترنح وسقوط حكم الطغاة كأنظمة وأفراد في بلاد العرب والشرق والغرب. فالعرب تمردوا وكسروا في العديد من الجمهوريات طوق التهميش والاستبداد والحرمان وفقدان الأمل. وقد أذاب الحراك الثوري العربي الجمود وأيقظ الشعوب المقهورة والمهمشة، التي فقدت الكرامة والأمل والمستقبل، لتكسر أخيراً حاجز الرهبة والخوف والاستكانة.. وتحول العرب للمرة الأولى إلى قوة إلهام. وفي أميركا تفاعلت حركة "احتلوا وول ستريت" التي استمدت الإلهام من الحراك العربي محتجة على دور وقوة حضور المال السياسي في التحكم في مخرجات العملية الانتخابية في بلاد "العم سام" التي تحاضر على الأنظمة والشعوب الأخرى حول الحاجة إلى الديمقراطية والحريات. وحتى الروس تمردوا وتظاهروا هم أيضاً ضد تغول الفساد السياسي والهيمنة على السلطة من طبقة حاكمة تلعب لعبة الكراسي في تبادل الأدوار على السلطة! ولاشك أن أهم ظاهرة في عام 2011 كانت ظاهرة تسلح الشعوب التي طال اضطهادها بسلاح الإرادة ورفع سقف مطالبها. وبالتالي قاد ذلك إلى انقلاب كلي على بعض النظم التي عاثت فساداً لعقود. ويبقى التحدي أمام هذه الظاهرة هو مستقبل ذلك الحراك الثوري في الأقطار العربية التي شهدت تلك التحولات، وما هي المحطة النهائية خاصة في الدول التي لا تزال تشهد مواجهات بسبب اللجوء للحل الأمني كحالة سوريا واليمن؟ وهل ستتمدد ظاهرة الحراك الثوري إلى دول أخرى؟ الظاهرة الثانية في عام 2011، هي أنه على رغم الحضور الخجول والمرتبك للجامعة العربية في التعامل مع الملفات العربية المعقدة ولكن دون نجاح في الحالة السورية مثلاً، برزت ظاهرة البحث عن قيادة جديدة في العالم العربي بسبب غياب حضور أدوار مراكز الثقل العربي التقليدية في مصر والعراق وسوريا. وهنا يبرز دور دول مجلس التعاون الخليجي كقائد يمسك زمام المبادرة ليقود الطرف العربي في الحضور والمبادرات والتمثيل والقوة الناعمة. والسؤال: هل يستمر الحضور الخليجي عربيّاً أم أنه مؤقت وعابر؟ الظاهرة الثالثة، كانت صعود وسطوع نجم قوى الإسلام السياسي التي قطفت ثمار الثورات. فهل دخلنا حقبة العصر الإسلامي بفوز القوى الإسلامية في دول الربيع العربي من تونس إلى المغرب، ومن مصر إلى ليبيا، وربما في عام 2012 وما بعده أيضاً، في سوريا واليمن؟ ظاهرة الهلال أو القوس السُّني بدأت تطل برأسها من المغرب إلى الخليج، فهل ستترسخ هذه الظاهرة وتتمدد وتتأصل في عام 2012؟ خاصة إذا ما أبدت تلك الحركات حضوراً براغماتيّاً وانفتحت القوى الكبرى على التعامل معها. ولكن التحديات أمامها كبيرة في وراثة أنظمة مفلسة ماليّاً مع أن طموح شعوبها بلا سقف. هذه أيضاً ظاهرة تستحق المتابعة. الظاهرة الرابعة، كانت تراجع حضور وتأثير ودور الولايات المتحدة على الساحة الدولية بسبب الأزمة المالية العالمية، والدَّين العام، وتقدم الشأن الداخلي على الخارجي، ووعود أوباما التي قطعها عندما كان مرشحاً بالانسحاب من العراق والتركيز على الشأن الداخلي، ولزوم تفهم المزاج الانتخابي الذي يسيطر على المشهد السياسي الأميركي، وبالتالي فقد أوفى الرئيس الأميركي فعلاً بوعده بالانسحاب من العراق وبدء خفض القوات في أفغانستان. وقد رأينا في الاستراتيجية الأميركية العسكرية الجديدة التي ستخفض ميزانية وزارة الدفاع "البنتاجون" بنصف تريليون دولار خلال عقد، كيف ستتغير عقيدة القتال والحرب الأميركية المستقبلية من خوض حربين في آن معاً، إلى خوض حرب واحدة واحتواء خصم في مسرح عمليات آخر. وبالنتيجة فسينخفض عديد القوات المسلحة الأميركية، وستتقلص ميزانيتها، و"ستقود أميركا من الخلف"، مما يعني أن حربي العراق وأفغانستان كانتا هما آخر حروب أميركا الكبرى. وأن حرب ليبيا ستكون مثالًا لدور وحروب أميركا القادمة. الظاهرة الخامسة كانت تراجعاً مثيراً للجدل لحضور ودور وتماسك الاتحاد الأوروبي ومنطقة "اليورو"، والانقسام الأوروبي بين محورين فرنسي- ألماني متمسك باستحقاقات الاندماج المالي الأوروبي من جهة، وبريطاني معارض ورافض للاندماج في منطقة "اليورو" من جهة أخرى. وقد بدأت تبرز أطروحات خطيرة وصلت إلى التشكيك في بقاء "اليورو" كعملة موحدة في سبع عشرة دولة من دول الاتحاد الأوروبي السبع والعشرين، ومن ثم فقد أصبحت تثار استفهامات عديدة حول إمكانية إعادة التفكير الجدي في جدوى "اليورو" من الأساس. أما الظاهرة السادسة فكانت تراجع خطر وتهديد الإرهاب وسقوط رموز المنظمات الإرهابية. وقد قتل بن لادن والعولقي ولم تنجح المنظمات الإرهابية في الذكرى العاشرة لتفجيرات 11 سبتمبر في القيام بأية عملية تذكر، وهذا مؤشر على تراجع كلي لحضور ودور مفهوم التغيير العنيف، مقابل تقدم مفهوم التغيير السلمي بفعل الربيع العربي. ونختم بالظاهرة السابعة المرتبطة بالعوامل الطبيعية والاحتباس الحراري وتنوع وتكلفة الكوارث الطبيعية من زلازل وأعاصير وتسونامي ومجاعة وغيرها، وخاصة مع الزلزال والتسونامي اللذين نجم عنهما تسرب الإشعاع النووي في اليابان. وكذلك المجاعة التي ضربت الصومال، والكوارث الطبيعية التي كانت ضمن الأسوأ في تاريخ أميركا. هذه سبع ظواهر مهمة في مجملها، وبالغة التأثير، حفل بها عام 2011. وسنرى إلى أين ستفضي بها تدافعات الأحداث في عام 2012. وهل سيتم البناء عليها لتؤسس لنظام عربي وأوروبي وأميركي جديد مختلف عما عهدناه لعقود؟.. الحال أن عام 2012 لا يزال في بدايته، سنرصد ونتابع ونأمل ونرى مجرى الأحداث إن شاء الله.