خلال العقود الستة الماضية، كانت أميركا تخطط لامتلاك القدرات التي تمكّنها من خوض عمليتين قتاليتين بريتين في وقت واحد. وخلال سني الحرب الباردة، كانت إحدى هاتين العمليتين تتصل بالصراع الشامل مع حلف وارسو في أوروبا، بينما كانت الثانية تتصل بصراع في القارة الآسيوية. وبعد انتهاء الحرب الباردة اتبع وزراء الدفاع الأميركيين المتعاقبين تنويعاً ما على هذا الإطار، وهو ما حان الوقت لتغييره. و"الدليل الاستراتيجي الجديد" الذي اعتمده وزير الدفاع الأميركي "ليون بانيتا"، وكُشف النقاب عنه يوم الثلاثاء الماضي، يمضي في هذا الاتجاه، ويحدد بشكل واضح أن القوات المسلحة الأميركية في المستقبل "ستكون لديها القدرة على هزيمة عدوان كبير في أحد مسارح العمليات، مع القيام في الآن ذاته بالحيلولة دون تحقيق أهداف أو فرض كلف باهظة على معتد انتهازي في مسرح آخر". وفي رأيي أن أوباما وبانيتا على حق في تقليص الاحتياج لحرب ثانية ممكنة، على اعتبار أن أي حرب تنشأ في هذا العصر لن تكون حرباً برية بالتأكيد. والحجة التي تدعو لتقليص حجم المهام قوية، كما يتبين لنا إذا ما استعرضنا المشاغل والهموم الرئيسية التي كانت تدعو للتفكير في خوض حربين بالتزامن فيما مضى؛ وهي إن صدام حسين قد اختفى وأي تهديد قد يشكله العراقيون في أي وقت لن يصل لحد غزو دولة أخرى. أما بالنسبة لكوريا الشمالية فحتى لو كانت تمتلك أسلحة نووية فإن قواتها التقليدية قد أُضعفت، بينما زادت قوة جيش كوريا الجنوبية بدرجة كبيرة. أما روسيا فسوف تبقى كدولة مثيرة للمشكلات في العديد من القضايا لأسباب عديدة، لكن ليس من بينها تشكيل تهديد لمنطقة نفوذ "الناتو". أما التهديدات التي يمكن أن تأتي من جانب الصين وإيران فإنها ستكون -في الأجل القصير على الأقل- تهديدات موجهة للقوات البحرية والجوية، والقوات الخاصة الأميركية، وهو ما سيتيح لأميركا القدرة على القيام بعمليتين كبيرتين بالتزامن. وبالنسبة لجوانب اللايقين وعدم الاستقرار التي يمكن أن تنشأ من سوريا إلى اليمن إلى جنوب آسيا، فرغم أنها يمكن أن تكون مقلقة للمصالح الأميركية، إلا أنه من غير المتوقع أن تتطلب عملاً عسكرياً واسع النطاق بقيادة أميركية. ومع ذلك، ليس هناك ما يدعو صقور الميزانية لدفع هذه الحجة إلى حدودها القصوى. فنموذج الحرب الواحدة لا ينبغي بحال أن يكون دافعاً لخفض ميزانية الجيش أو فيلق المارينز بمقدار الثلث أو أزيد من ذلك؛ لأن التقليص في عديد الأفراد وبنية القوات لا ينبغي أن يزيد على 15 إلى 20 في المئة، وأن يتم (إذا ما تقرر) بشكل تدريجي، وبعد تقليص حملة أفغانستان تدريجياً كذلك. ولتنفيذ هذا النهج بشكل مسؤول، ستكون الولايات المتحدة بحاجة إلى جيش نظامي، وفيلق مارينز بنفس الحجم الذي كانا عليه تقريباً في عهد كلينتون. وبالإضافة لذلك ستظل أميركا بحاجة إلى قدرات تمكنها من أداء مهام متزامنة قد تضطرها الحاجة إليها، وهي مهام ستكون على أي حال أصغر نطاقاً من الحرب الكاملة، ولكن يمكن مع ذلك أن تكون أطول في مدتها الزمنية. وقد يذهب بعض النقاد إلى القول بأن امتلاك القدرات اللازمة لخوض حرب واحدة ربما يكون شيئاً فيه مبالغة، أو أزيد من اللازم بالنسبة لأمة منهكة ومفلسة، وبأن مهام مواجهة التمرد قد باتت شيئاً من الماضي، والقتال على الأرض أصبح أسلوباً عتيقاً. لكن على من يقولون ذلك أن يتذكروا أننا قد أقنعنا أنفسنا بكلام مثل هذا عن مواجهة التمرد بعد حرب فيتنام، لنجد أنفسنا بعد انتهاء تلك الحرب بربع قرن، وعندما بدأت حرب العراق، غير مستعدين للتعامل مع التمرد الذي نشأ في ذلك البلد عقب سقوط نظام صدام حسين، وهو ما حدث أيضاً في أفغانستان. هذا بالنسبة لمواجهة التمرد، أما بالنسبة للحرب البرية، فعلى الرغم من أن نشوب حرب من هذه النوعية قد بات أمراً غير محتمل، إلا أن التجربة علمتنا أن نكون مستعدين دائماً لمواجهة ما هو غير محتمل. وبالإضافة لذلك، على الولايات المتحدة أن تحتفظ بقدرات تمكنها من مواجهة نظام إيران، على أن يتم النظر في هذا الاحتمال فقط في ضوء أخطر الظروف التي يمكن مواجهتها على الإطلاق، كقيام إيران بشن هجوم على الأراضي الأميركية بحجم هجوم الحادي عشر من سبتمبر على سبيل المثال. وقد نجد من النقاد من يقول إن نموذج الجيش المصمم لخوض حرب واحدة في وقت واحد، يمكن أن يضعف من قدرة أميركا على الردع، لأنه يمكن أن يغري بعض الدول التي تعتقد أن أميركا عاجزة عن خوض حربين في وقت واحد، بالعدوان عليها. الرد على ذلك هو أنه يمكن لأميركا إذا ما كانت منخرطة في حرب، وجدّت ظروف تدعوها للاشتباك في جبهة أخرى، اللجوء فوراً لاستدعاء الحرس الوطني أو البدء في زيادة حجم الجيش النظامي. إن الاستراتيجية تعني تقليل حجم الخطر، لا إزالة الخطر تماماً. والتهديدات التي يمكن أن تنشأ من الطوارئ البحرية في المحيط الهادئ الغربي والخليج العربي، أو التي يمكن أن تنشأ عن الضعف المالي تفوق التهديدات التي تنشأ عن خوض حربين في وقت واحد. ويجب بالتالي إعادة تعديل الميزانية العسكرية الأميركية على هذا الأساس. ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس"