ما بين الخمسينيات والسبعينيات نشأت لـ"المناضل" صورة معيّنة. ففضلاً عن أفكاره الجذريّة والقطعيّة، كان السجن والألم والصمود مصادر اعتداده وتباهيه. وحتى شكله ومظهره كانا يجهدان للتكيّف مع أشكال قادة جذريّين من ستالين إلى تشي غيفارا. هذا المناضل لم يعد يحتل الموقع المتصدّر في الحياة السياسيّة لأيّ من البلدان، إلاّ أنّ مَن وصلوا من المناضلين إلى السلطة في هذا البلد أو ذاك أنشأوا نظماً استبداديّة توتاليتاريّة أو شبه توتاليتاريّة. أمّا الجيل المتفرّع عن هؤلاء، كالرئيس الكوريّ الشماليّ الذي رحل مؤخّراً كيم جونج إيل والرئيس السوريّ بشّار الأسد ونجلي الرئيس العراقيّ الراحل صدّام حسين وأنجال العقيد الليبيّ، الراحل أيضاً، معمّر القذّافي، فهؤلاء انسحبوا تماماً من صورة المناضل التي أوصلت آباءهم إلى الحكم ثمّ ورّثته لبعضهم وكادت تورّث سواهم. الصورة الجديدة والبديلة تتجسّد في كيم جونج إيل الذي زوّدتنا وكالات الأنباء والصحف العالميّة بمعلومات كثيرة وغنيّة عنه مؤخّراً بسبب وفاته. فما هي صورة أبناء المناضلين الذين بات "الزعيم العزيز" أبرزهم وأبعدهم تعبيراً؟ لقد ورث "كيم" السلطة في 1994 حين لم يكن معروفاً وجهه، والقليل الذي كان معروفاً أخذ شكل تكهّنات في الصحف الغربيّة. ولئن بالغ الإعلام الكوريّ الجنوبيّ في تصويره كاريكاتوريّاً كمعتوه أو أبله، فإنّ ما يبدو صحيحاً من تلك الملامح التي رسمت له هو نهمه في الطعام والشراب، لاسيّما حبّه للسلطعون (لوبستر) الذي يُشحن إليه يوميّاً أينما كان، في البلد أو خارجه، ولا يتناوله إلاّ بقضبان فضيّة، وكذلك ولعه بالشمبانيا والكونياك والنبيذ و"صحبة السيّدات الجميلات". كذلك تسرّبت أخبار عن هوسه بالسينما، لاسيّما بالممثلة الأميركيّة إليزابيت (ليز) تايلور. وقد قيل إنّ "كيم" جمع مكتبة سينمائيّة ضمّت عشرين ألف فيلم هوليووديّ، كما زار شركة الإنتاج السينمائيّ مئات المرّات. لكنّ معلومات أخرى تجمّعت عن كيم جونج إيل تقول إنّ متابعته الدقيقة لتفاصيل ما يجري في بلاده وما يجري في العالم اقتصرت على ما قد يؤثر على سلطته. وهذا على الأقلّ ما قالته صراحة وزيرة الخارجيّة الأميركيّة السابقة مادلين أولبرايت التي رأت أنه "مسيطر تماماً على المعلومات التي تقدّم له". وأهمّ من هذا كله عبادة الشخصيّة التي صُنعت له، بعدما صُنعت لأبيه على نحو فائض وموسّع. فهو "البطل" عند شعبه، وهو، بحسب لقبه الرسميّ، "القائد العزيز" الذي حين ولد في 1941 ظهر في السماء قوس قزح مزدوج ونجمة مضيئة. وممّا تنسبه الرواية الرسميّة إليه أنه يتحكم بالطبيعة وأفعالها وأنه كتب، خلال عامين، ستّ أوبرات كما صمّم بنفسه أحد أشهر المعالم في العاصمة بيونج يانج ووضع كتاباً عن السينما كما أخرج مسلسلاً سينمائيّاً وطنيّاً من مئة حلقة عن التاريخ الكوريّ. وهذه الخوارق المنسوبة إليه تأبى التعايش مع أيّ حقيقة فعليّة عنه، إذ لا يجوز للحقائق أن تتدخل فتلوّث الخوارق. والحقائق تقول إنّ كيم جونج إيل ولد قريباً من مدينة خاباروفسك الروسيّة حيث أقام والده "القائد العظيم" إبّان الحرب العالميّة الثانية. وبعد ذاك، إبّان "الحرب الوطنيّة" التي قادها الأب، عاش النجل في الصين الماويّة، حتى إذا استولى الشيوعيّون على كوريا الشماليّة، درس كيم الابن في الجامعة التي تسمّت باسم أبيه "جامعة كيم إيل سونج" وتخرّج منها. ومن ملعقة ذهب إلى أخرى، أحرز كيم الشاب، في 1975، لقب "القائد العزيز"، وبعد ذلك ضُمّ إلى اللجنة المركزيّة لحزب العمّال الكوريّ (أي الحزب الشيوعيّ الحاكم)، ليُسلم المسؤوليّة المباشرة عن الثقافة والفنون في طول البلاد وعرضها. ولكنه ما لبث بعد ثلاثة أعوام أن أصدر أمره الكبير الأوّل بخطف "شين سانج أوك"، المخرج السينمائيّ الكوريّ الجنوبيّ، وزوجته الممثلة "شوا إيون هي". وقد أبقي الاثنان محتجزين في مكانين متباعدين مدّة خمس سنوات، فحين صير إلى توحيدهما تمّ ذلك وسط احتفال باذخ ومبهر! وقد ذكر في وقت لاحق أنّ "الزعيم العزيز" اعتذر من الزوجين على خطفهما وسألهما أن يصنعا أفلاماً له. وبالفعل اضطرّا إلى إخراج سبعة أفلام من هذا الصنف قبل أن يوفقا، في 1986، في الفرار إلى الغرب. وكذلك شاع أنه هو شخصيّاً من أصدر في 1987 الأمر بإسقاط طائرة مدنيّة كوريّة جنوبيّة. على أنّ عام 1991 شكل المدخل إلى توريثه. فهو "انتخب" حينذاك القائد الأعلى لـ"جيش الشعب الكوريّ"، أهمّ وأقوى مؤسّسات النظام الشيوعيّ، على أن يساعده هذا الموقع في سحق كلّ احتجاج على التوريث قد ينشأ في أوساط العائلة والحزب والجيش. بيد أنّ تلك الفترة سجّلت أيضاً تفسّخ الاقتصاد المركزيّ الكوريّ وانحطاطه، الأمر الذي فاقمه انهيار الشريك التجاريّ الأكبر، أي الاتحاد السوفييتي. وهكذا كادت التجارة تتوقف بسبب ندرة السلع، فيما بات النظام نفسه يفتقر إلى الوقود لتشغيل مصانعه ومكاتب مؤسّساته. وكذلك جاءت الكوارث الطبيعيّة لتقضي على المواسم الزراعيّة وعلى حياة مئات آلاف البشر في آن، فيما ظهرت تمرّدات متفرّقة قضى عليها النظام بالقوّة المعهودة فيه. واستمرّت هذه الطريقة في الحاكميّة بعد التوريث في 1994، وإن خففت المعونات الخارجيّة، لاسيّما منها الصينيّة، وقع الأزمة الاقتصاديّة. على أنّ عناد "كيم" بلغ الذروة في تمسّكه ببرنامج السلاح النوويّ في مواجهة الانتقادات الدوليّة الحادّة، وبتطويره واختباره صواريخ بعيدة المدى قادرة على بلوغ مدن الولايات المتحدة. وهذا ما ساهم في إحكام العزلة على بلده من قبل عديد الدول الآسيويّة، فضلاً عن الغربيّة، التي أخافها جنونه. وهذا، بدوره، ما فاقم فقر الكوريّين الشماليين وعوزهم. أمّا المأثرة الأخيرة فكانت توريث نجله كيم الثالث الذي سُمّي "القائد الأعلى للدولة والجيش والحزب". هذه المواصفات التي تجمع بين التفاهة والجنون هي التي خلفتها مواصفات المناضل القديم!