في السنوات الأخيرة انتشر نوع من فيروسات الإنفلونزا القاتلة بين الطيور، وهو وإن كان قد أدى إلى نفوق عدد كبير منها فإنه نادراً ما ينتقل إلى الإنسان. لكن رغم ذلك، وبسبب استمرار إصابة الطيور بهذا الفيروس، أصبح مجرد وجوده يشكل خطراً حقيقياً على الصحة العامة ويبرز كتهديد لا يجب الاستهانة به. فإذا كانت الإنفلونزا الموسمية العادية التي تصيب البشر، تقتل أقل من 1 في المئة من المصابين، تبقى إنفلونزا الطيور التي تعرف بفيروس H1N1 أخطر من ذلك بكثير، إذ يمكنها قتل نصف المصابين من البشر تقريباً. ولو أن هذا الفيروس القاتل تطور بطريقة تسمح له بالانتقال بين البشر بنفس السرعة والفاعلية التي تنتقل بها الإنفلونزا الموسمية العادية، فإنه قد يكبد الحياة البشرية خسائر فادحة. وللإجابة عن بعض الأسئلة العلمية المتعلقة بالفيروس، والإشكالات المتصلة بالصحة العامة، بما فيها قدرة الفيروس على التحول، والآليات التي يتبعها في ذلك، قام العلماء مؤخراً بإجراء دراستين -برعاية المعهد الوطني للصحة في أميركا- لتسليط الضوء على مثل هذه الأسئلة وتمكين مسؤولي الصحة العامة من الاستعداد الجيد لحالات اندلاع وباء ناتج عن تحول الفيروس الذي يصيب الحيوانات وانتقاله إلى البشر. وهكذا، وبالاشتغال على أنواع من الفيروسات تم إنتاجها داخل المختبرات، تعرف علماء من أميركا وأوروبا على العديد من الآليات التي قد تدفع لتحول الفيروس للتنقل بين حيوان النمس الذي يعتبر النموذج الأفضل والأقرب للبشر. وقد تعرف البحث العلمي على بعض الجينات الخاصة التي يستطيع من خلالها الفيروس التأقلم في بيئات أخرى خارج تلك التي ظهر فيها أول مرة، وبالتالي قدرته على الانتقال إلى حيوانات مختلفة. ومع أن هذا الفيروس الذي يعمل عليه العلماء لا وجود له في الطبيعة، فإن هناك تخوفا كبيرا لدى العلماء من احتمال تطوره في بيئة طبيعية، بحيث لا يستطيع العلماء توقع ما إذا كان الفيروس نفسه الذي أنتج في المختبر سيظهر في الطبيعة، أم أن نوعاً مختلفاً سيظهر، بل لا يمكن تحديد متى وأين سيظهر الفيروس. وبالنظر للغموض الذي يلف الفيروس القاتل، فإن دراسته داخل المختبر قد تكشف للعلماء معطيات مهمة تساهم في تطويقه والتعامل معه، فرغم الجهود الكبيرة التي تبذلها المؤسسات الدولية، مثل منظمة الصحة العالمية ومركز مكافحة الأمراض الأميركي للوقاية من الفيروسات الجديدة والتنبيه لها، ما زالت الإنفلونزا تندلع على حين غرة وفي أماكن غير متوقعة. ولعل فيروس H1N1 الذي انتشر في عام 2009 خير دليل على صعوبة التنبؤ بوقت ومكان ظهور الفيروس، ففي ذلك العام انتشر فيروس جديد على نطاق واسع إلى درجة أن شركات الأدوية العالمية عجزت عن تحضير اللقاحات الكافية لمنع انتشاره على نطاق أوسع. ولأن العلماء لا يعرفون حتى هذه اللحظة العوامل التي تساعد فيروس الإنفلونزا المتحول على الانتقال السريع بين البشر بعد ظهوره في أنواع حيوانية مختلفة، فإنهم يعولون على دراسة الفيروس الجديد في حيوان النمس علَّهم يصلون إلى الأجوبة الشافية. فدراسة الجانب البيولوجي للفيروس، وطرق انتقاله، له تأثيرات مهمة على إمكانية التنبؤ ثم الوقاية والعلاج. وبالتعرف أيضاً على التحولات اللازمة للفيروس حتى ينتقل إلى الثدييات، يمكن رصد العوامل الجينية التي توفر ما يشبه خريطة طريق للعلماء لرصد وقت التحول والعدوى. ولو تمكن العلماء من رصد التحولات داخل الفيروس وتعقب الجينات المسؤولة عن ذلك، لأمكنهم معرفة أوقات اندلاع المرض وبالتالي تحذير مسؤولي الصحة العامة من احتمال اندلاع الوباء. ومع أن المراكز الصحية والمؤسسات المعنية تسعى إلى تفادي الفيروس من خلال إعداد مستودعات من اللقاحات، فإن التعرف الدقيق من قبل العلماء على توقيت تحول الفيروس، وعلى أطواره الأكثر فتكاً، يساعد في التعامل المبكر مع الإصابات، وفي تحضير اللقاحات الفعالة القادرة على التعامل مع الأنواع الأخطر من فيروس الإنفلونزا. وأكثر من ذلك، فإنه بدراسة العلماء للخريطة الجينية للفيروس والتعرف إلى نقاط ضعفه، يمكن تصنيع عقاقير جديدة تستهدف نقاط الضعف تلك وتسهل القضاء على الفيروس ومنع انتشاره. فقد أثبتت عقود من التجربة أن نشر المعلومات الصحيحة والدقيقة المستمدة من أبحاث الطب الحيوي وتوفيرها لمسؤولي الصحة، يهيء المجال لاتخاذ الإجراءات الوقائية اللازمة والحفاظ على الصحة العامة. لكن يبقى السؤال ما إذا كانت فوائد هذه الأبحاث العلمية تفوق الأخطار المحتملة؟ الحقيقة أنه من الصعب تقديم جواب مقنع، حيث يمكن دائماً لفيروس الإنفلونزا أن يتطور بطريقة لم يتوقعها المختبر، أو على نحو مختلف عن ذلك الذي صممه العلماء. ومن الصعب التأكد مما إذا كان الفيروس سيعمل داخل الجسم البشري بنفس الطريقة التي رصدها العلماء في حيوان النمس مثلاً، لكن مع ذلك توفر الأبحاث الأخيرة فرصة لفهم أفضل لآليات تحول الفيروس، مما يعزز فهم الأطباء لطرق العلاج. غير أنه مع هذه الأبحاث العلمية تأتي مسؤولية الاستخدام الجيد للمعلومات، إذ من الضروري تأمين المختبرات حتى لا يخرج الفيروس إلى الطبيعة، كما أنه على فريق الباحثين أن يحرصوا على عدم تسرب المعلومات حول كيفية تطوير الفيروس إلى الخارج، وعدم سقوطها في أيدي مغرضة قد تعمل على تطويره لأغراض لا علاقة لها بالحفاظ على الصحة العامة. --------- أنثوني فوسي وجاري نابيل وفرانسيس كولين كتاب أميركيون متخصصون في الشؤون العلمية --------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس"