غيب الموت في الأسبوع الأخير مِن العام الماضي الضَّابط عبد الغني الرَّاوي، في منفاه بالرِّياض، وأقول منفاه لأنه كان مطلوباً مِن قِبل النِّظام السابق، بتهمة محاولة انقلاب العام 1970، بالاشتراك مع مهدي الحكيم (اغتيل 1988)، وبدعم مِن شاه إيران محمد رضا بهلوي (ت 1980)، وبغض النَّظر عن اختلافنا واتفاقنا مع الحكيم والراوي وشاه إيران إلا أنها واحدة مِن الانسجامات المذهبية، إن صح التَّوصيف، ولدى متدينين وهي مفرحة. فالحكيم صاحب العمامة السوداء، ويكفي ذلك أنه كان متديناً، وعبد الغني الراوي كان متديناً متعصباً على مذهب أهل السُّنة، والاثنان كانا من السادة، أي السلالة النبوية، مع اختلاف المذهب. بل إن هناك مِن النُّشطاء الشيعة كانوا منتظمين في "الإخوان المسلمين" وحزب التَّحرير العراقيين، بل أكثر مِن هذا أن صاحب عِمامة سوداء، أي عالم شيعي، رشحه جماعة "الإخوان" أن يكون رئيساً لحزبهم، وسيكون لي طنب في هذا الأمر مستقبلاً. لغرض سيأتي، في ما بعد، جهدت للقاء باللواء المتقاعد عبد الغني الراوي بالرِّياض، قبل ستة أشهر، فقلت ماذا أحملُ له؟ ففكرت بكتابي "ضد الطَّائفية" (دار مدارك 2011)، اتصلت بنجله وسألني عن سبب الزَّيارة فوالده كان متعباً، فهو قد تخطى التِّسعين بسنتين (1919-2011)، ويعاني كثيراً، قلت له: أود السلام عليه أولاً وثانياً أستفسر منه عن قضية الفتاوى القاتلة، التي كتب عنها هو في جريدة "الزَّمان" (1999)، ثم كتب عنها الشَّيخ طه جابر العلواني، الذي له فضل بتعطيلها، فرحب الرجل وصار اللقاء. لمح الرَّاوي، وكان مقعداً، عنوان الكتاب "ضد الطَّائفية" فعلق قائلاً: هذه كارثة فأنا أكثر معارفي وأصدقائي مِن الشِّيعة، ماذا يحصل؟! وسكت. حاولنا أنا ونجله، الذي عاد إلى بغداد بعد 2003 وتعرض لحادث اختطاف وابتزاز، وخرج سالماً، أن نسمعه ما جئتُ مِن أجله، فلم نستطع على الرغم مِن علو الصوت إلى حدِّ الصِّراخ فسمعه كان معطلاً تماماً، فأخذت أكتب له ما أُريد، لكن إجابته تأتي غير واضحة، فحينها قلت لنجله، الذي كان كريماً جداً معي، نتركه ليرتاح، وسط جفوة المكان إلى حد الوحشة، وهي وحشة الاغتراب والمرض وأرذل العُمر. فكنت أنظر إليه وأقابل ما هو فيه مع ذلك الضَّابط الصَّارم في نظامه وقيافته العسكرية وصخبه في الانقلاب والسِّياسة، وكنت لحظتها أورق مع نجله ألبوم صوره. أكد لي نجله أن الحدث صحيح ووالدي كتبه في دفاتره، وما نشره في الجريدة كان صحيحاً. على أية حال، ليس هذا الشَّاهد، مثلما يُقال، إنما في وفاة عبد الغني الرَّاوي لا بد مِن التَّذكير بحدث، مرَّ كتجربة مرة، حتى لا يتكرر، وليؤخذ درس في زج الدِّين في أمر خطير لخدمة السِّياسة، وكان الرَّاوي بطلها وعلماء الدِّين الكبار للأسف انساقوا لها. ذلك الحدث الذي ظل سراً، مع أنه كاد يذهب بالآلاف مِن البشر بتحكيم الشَّريعة وتطبيقها. وما كان يُكشف لولا التَّضارب في ما كُتب مِن المذكرات، ولهوله لم أخذه مِن رواية شخص واحد، وإن كان هو صاحب الشّأن الرَّاوي، فسعيت للتحقق مِن عدة جهات كانوا فاعلين وشهود عيان في الوقت نفسه. لقد تحملت اللوم والتَّهديد بعصا غليظة، مِن شخصيات كانت في المعارضة واليوم هي في السُّلطة، لكن ما كان الهدف للتَّشهير إنما الآلاف كادوا يدفنون في أخاديد تحفر لهذا الغرض، ومع وقوف فصائل الإعدام على حوافي الأخاديد، فهو مشهد لا يقل قسوة عما ورد في الآية الكريمة: "قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ" (البروج: 3-4). سعيت إلى التَّثبت مما حدث كي أضعها تجربةً قاسيةَ أمام الأجيال، وأمام السياسيين العِراقيين في الوقت الحاضر، وهم يبحرون بسفينتنا بعيداً عن الشَّواطئ الآمنة، وسط الأمواج العاتية، يمرون بها على طُرق القراصنة، ومِن بينهم مَن هو قرصان للأسف. قرأت في مذكرات الرَّاوي أنه تقرر في يوليو 1963 تنفيذ حكم الشَّريعة بالشِّيوعيين وأنصارهم، والعدد كان في السِّجون والمعتقلات، مثلما ذكرتُ، فطُلب منه تنفيذ الحكم، وهو أُذيع في الرَّاديو الرسمي بقانون 13 السيء الصِّيت، وهو إبادة الشِّيوعيين، ولأن الرَّاوي متدين متعصب قال لهم: لا أذهب إلا بعد أخذ فتاوى مِن علماء الدِّين، فاستحصل الفتاوى مِن كبار علماء الدِّين، في ذلك الوقت، الشِّيعة والسُّنَّة، وذكر نصوص الفتاوى، وهي مرعبة حقاً. لكن كُتب لقرار تطبيق الشَّريعة بذبح البشر، وعبر الفتاوى السِّياسية لا الدِّينية ألا يُنفذ، وذلك بجهود الشَّيخ طه جابر العلواني، وقصة ذلك طويلة. اتصلت بمكتب الشَّيخ العلواني، وكان بأميركا، فأكد ما حصل عندما أتاه الرَّواي قُبيل تنفيذ الحُكم بخمسة ساعات ونهاه عن تنفيذه، لأن الفتاوى سياسية لا دينية، وأرسل لي مشكوراً كتابه الذي ذكر فيه الحادثة بتفاصيلها "لا إكراه في الدِّين إشكالية الرَّدة والمرتدين مِن صدر الإسلام إلى اليوم" (الشروق، الطبعة الأولى 2003). كان ذلك الحدث دافعه إلى تأليف هذا الكتاب. ثم وجدت في كتاب هاني الفكيكي (ت 1997) "أوكار الهزيمة" تأكيد أن الرَّاوي دخل عليهم في الاجتماع وسلم الرَّئيس عبد السَّلام عارف (قتل 1966) قصاصات ورقية، وقال الأخير هذه الفتاوى وعدد أسماء المفتين، وطلب التَّنفيذ. بعدها التقيت بمحسن الشّيخ راضي، وقلت إن الفكيكي أورد اسمك بأنك كنت موجوداً في ذلك الاجتماع فهل حصل ذلك؟! فأكد ما حدث، مع قوله: "قرأها لنا عبد السَّلام ولم نرها بأعيننا كنصوص". ما أريد الوصول إليه، ليس رغبة في تشهير، ولا لتقليب المواجع، إنما قد يُقاد وضع العِراق الحالي إلى ما يشبه ذلك الحدث، لأن توظيف الدِّين والمذهب أخذ يتصاعد، وعندما تمتزج السِّياسة بالدِّين يتحول إلى دكتاتورية بعيدة عن عبادة الله، وهذه المرة ستكون بين شِيعة وسُنَّة، وفتاوى التَّكفير نراها واقفة على الحدود، ونفذ الكثير منها بتفجيرات رهيبة ومشاهد مذابح مفزعة. كانت تجربة اُستغل بها الدِّين أيما استغلال، اُستغل تعصب عبد الغني الرَّواي، الذي وجد في القتل الشَّرعي واجباً دينياً، وعلماء دِين دفعهم السِّياسيون، ولم يأخذوا الخلافات السِّياسة على أنها لغو بالنَّسبة لثوابت الدِّين ورحمة الله غير المحدودة. إنها قسوة توظيف الدِّين سياسياً، وما أفزعها مِن قسوة! فحذاري.