تمثل القراءة في يقيني ألف المعرفة، وباء الفهم، وياء اليقين. فهي ألف المعرفة لأنها أول طريق السالكين دروب المعرفة. وهي باء الفهم لأنها ترتقي بنا من دروب المعرفة إلى دروب الفهم والتنوير. كما أنها ياء اليقين، الذي هو منتهى غاية الإنسان الساعي نحو المعرفة، بل إن القراءة تؤسس لكل حروف اللغة العربية "لغة القرآن"، التي نزلت "بلسان عربي مبين ". وليس صدفة أن يتجلى الإعجاز الإلهي في أن تكون أول كلمة/ فعل نزل على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، كان يحث على القراءة "اقرأ باسم ربك الذي خلق "صدق الله العظيم. لذا فإن القراءة فعل حركة، فعل تدريب، فعل اكتشاف: اكتشاف الذات واكتشاف الآخر، الاكتشاف الذي يروم فهم هذه الذات، وفهم الآخر، وصولاً إلى فهم العالم الذي يحيط بنا. وجعل ما يبدو غامضاً واضحاً وجلياً، قدر الطاقة والجهد والمثابرة. والقراءة هي الدائرة التي يجتمع عند مركزها رأس المال المعرفي، ورأس المال الثقافي، ورأس المال الاجتماعي، في نسيج واحد يغزله الإنسان (رأس المال البشري) الساعي نحو اكتساب المعرفة التي لا تكف عن التجدد والتطور. ونظراً لما تمثله عملية القراءة في بناء الوعي الفردي، والوعي المجتمعي، بل وفي بناء مجتمع المعرفة، نحاول الحديث عن هذه العملية في سلسلة من المقالات نبدأها بالتعرف على عملية القراء، من حيث المعنى، ومن حيث الأهمية، ثم نوضح طبيعة الصعوبات التي تواجهها في عصر الثقافة الرقمية والإنفجار المعلوماتي غير المسبوق. والقصد من وراء ذلك، هو أن نؤسس حواراً بيننا نحن الشركاء في حب الوطن، نسعى من خلاله نحو إعادة الاعتبار لعملية القراءة. ومناقشة الصعوبات التي جعلتها خارج دائرة الضوء. وتحديد السبل الكفيلة بجعلها طريقة في التفكير، وأسلوب حياة. كما آمل أن يثمر هذا الحوار عن تأسيس بنك معلومات يحتوي على قاعدة بيانات وطنية تخص كل ما يتصل بعملية القراءة كمقدمة لتأسيس مرصد للقراءة يسعى نحو رصد تفسير وتحليل، وتبادل المعارف والخبرات المتصلة بعملية القراءة بغية دعمها وتعزيزها لدى مختلف الفئات الاجتماعية من أبناء الوطن الذين يحملون أمانة النهوض بوطنهم الغالي، ويسعون جادين نحو تأسيس مجتمع المعرفة. ونبدأ حوارنا إذن بتعريف مبسط لمفهوم القراءة، ثم نحدد طبيعة الكوابح البنائية التي تواجه عملية القراءة في عصر الثقافة الرقمية. وإذا كنا نتفق على أنه ليس ثمة تعريف جامع مانع لأي مفهوم خاصة إذا كان هذا المفهوم فضفاضاً، متعدد المعاني والدلالات، كمفهوم القراءة. فذلك يعني أن ثمة تعريفات متنوعة لمفهوم القراءة. وعلى هذا فقد جاء في المعجم الوجيز: قرأ الكتاب قراءةً: تتبع كلماته نظراً أو عن حفظ، نطق بها أو لم ينطق. وقرأ الآية من القرآن: نطق بألفاظها عن نظر أو حفظ. فهو قارئ. بناء على ذلك نجد أن عملية القراءة عملية تفاعلية بين القارئ والنص. إياً ما كانت طبيعة هذا النص. فقد يكون هذا النص نصاً مقدساً، أو كتاباً علمياً، أو عملاً أدبياً، أو لوحة تشكيلية، أو صورة. وقد يكون الإنسان ذاته هو النص. كما يبدو العالم المحيط بنا نصاً قابلًا للقراءة. وعلى ذلك يمكن القول إن القراءة نشاط ذهني أو عقلي يسعى إلى تحقيق أهداف معينة. فليس ثمة قراءة بلا هدف، بل إن القراءة يجب أن تكون قراءة منتجة. سواء على المستوى الفردي، الذي يسعى إلى فهم الإنسان لذاته. أو على المستوى المجتمعي المتمثل في فهم الآخر، وصولاً إلى فهم العالم المحيط بنا. وجعل ما قد يبدو غامضاً واضحاً ومفهوماً قدر الإمكان. بما يفضي إلى تحسين الشروط المعرفية التي تحكم حركة الإنسان في تفاعله مع مجتمع المعرفة الذي جعل المعرفة عن أطراف أصابعنا. تسبح حولنا، وتحيط بنا من كل جانب، ولعل مصطلح "الشبكة العنكبوتية "، أبلغ تعبير عن هذه الحقيقة. لكن بقدر ما أصبحت المعرفة تسبح من حولنا، وتحيط بنا من كل جانب. بقدر ما أصبح الوصول إليها مرتبطاً بالعديد من الوسائط المعقدة، التي جعلت الإنسان موصولًا بعالم افتراضي يعتمد على الثقافة الرقمية مصدراً أساسياً من مصادر المعرفة. وعلى الرغم من طبيعة الخلاف حول توصيف ماهية هذه الثقافة: سواء أكانت ثقافة رقمية، أو ثقافة إلكترونية، أو ثقافة معلوماتية. فثمة اتفاق على كونها وليدة ثورة الاتصالات والمعلومات، ووليدة التقدم التكنولوجي غير المسبوق في وسائط نقل وتبادل المعرفة والمعلومات. بحيث باتت هذه الثقافة سمة من أبرز سمات مجتمع المعرفة. كما أصبحت ذات طبيعة عابرة لحدود الزمان والمكان. ولا تكف عن التغير والتجدد بشكل لا ينقطع. لكنها لا تسير في خط متوازن، سواء داخل المجتمع الواحد أو بين المجتمعات المختلفة. حيث خلقت أنماطاً من الاحتكار الثقافي، ترتب عليه أنها لا تتوزع بصورة متساوية بين الأفراد والمجتمعات، بل إن فرص وصول الأفراد والمجتمعات إليها أصبح يعتمد على قدراتهم وإمكانياتهم في التعامل معها، واستخدام، الوسائط التكنولوجية، التي تمكنهم من الوصول إلى هذه الثقافة الرقمية. ويأتي على رأس هذه الوسائط القدرة على استخدام، أجهزة الحاسب الآلي، والوسائط الإلكترونية وتطبيقاتها المتنوعة والتعامل معها. ولا شك أن هذه الإمكانيات ترتبط ارتباطاً عكسياً بمعدل الأمية التكنولوجية. وتصل هذه الإمكانيات إلى حدها الأدنى، وربما تكون منعدمة في ظل ارتفاع معدل الأمية الأبجدية، التي لا زالت سمة لصيقة بالعديد من المجتمعات. وإذا كانت هذه الثقاقة الرقمية قد خلقت وسائط معرفية جديدة، كما خلقت أبنية معرفية وثقافية جديدة، فقد كان من أهم نتائجها تراجع الكلمة لصالح "ثقافة الصورة ". وأصبح العالم يعيش "عصر الثقافة المرئية"، التي أصبحت السطوة فيها لوسائل الدعاية والإعلام. وذلك على حساب الثقافة المكتوبة، مما كان له آثاره السلبية على عملية القراءة، ولكن كيف يمكن تفسير وفهم هذه الآثار السلبية. وكيف يمكن وضع عملية القراءة في القلب من مشروع وطني نشارك جميعاً في صياغته. ليكون ذلك موضوع المقال القادم بإذن الله تعالى . لكن يسرني أن نبدأ هذاالحوار بالإجابة على هذه الأسئلة: هل ترى أن عملية القراءة قد تراجعت فعلاً؟ ، وما تفسيرك لأسباب هذا التراجع؟ وكيف يمكن إعادة الاعتبار لعملية القراءة مرة أخرى؟