عندما أنشأ المسؤولون في واشنطن أول محطة إذاعية على الموجات القصيرة تبث باللغة الألمانية في عام 1942 لمواجهة الدعاية النازية، تخيل قليل من الناس وقتها أن تتحول تلك المحطة، أو تلك المبادرة، على مدى السبعين عاماً الماضية إلى إحدى عمليات البث الإذاعي الأكثر أهمية وتأثيراً بالنسبة للولايات المتحدة في العالم، فبعد إنشائها في البداية للتصدي للفاشية في أوروبا وزحفها الخطير على بلدان ودول القارة، وباعتبارها أداة فعالة خلال الحرب العالمية الثانية، انتقلت محطة صوت أميركا، كما باتت تعرف لاحقاً، لتصبح فيما بعد إحدى الأدوات الأساسية في مكافحة الشيوعية والتصدي لآلتها الدعائية. واليوم تواصل دورها أيضاً في التصدي لفكر "القاعدة" والتشدد الديني من خلال التركيز على مفاهيم الحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية بالاعتماد على شعارها الخالد "ربما تكون الأخبار جيدة وربما تكون سيئة، ولكننا سنقول لكم الحقيقة". وباستحداث العديد من المحطات الإذاعية التابعة للإذاعة الأم، وتعدد اللغات التي تبث بها والمناطق التي تستهدفها، تحولت صوت أميركا إلى واسطة العقد في جهود الدبلوماسية العامة الأميركية التي تسعى إلى التقرب من الشعوب الأخرى والتعرف على ثقافتها، وفي نفس الوقت نشر الثقافة الأميركية ودفع الآخرين إلى التعرف على قيمنا ومبادئنا، وهكذا تشير التقديرات الأخيرة إلى وصول عدد متلقي إذاعات صوت أميركا المختلقة في جميع أنحاء العالم إلى 187 مليون شخص وذلك بأكثر من 59 لغة عالمية. ولكن على رغم هذا التاريخ الحافل لصوت أميركا وخدماتها الجليلة لا يعرف العديد من الأميركيين الآن التغيرات المرتقبة في بنيتها والمراجعات التي ستخضع لها في المستقبل القريب بسبب التحديات الإعلامية الجديدة، فلم تعد المحطات الإذاعية، وخاصة تلك التي تبث عبر الموجات القصيرة، محط منافسة شديدة من قبل الفضائيات فحسب التي غزت المشهد الإعلامي العالمي، بل صارت تنافسها أيضاً الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي التي طغت على المشهد في الآونة الأخيرة. والأمر لا يتعلق بصوت أميركا وحدها، بل لقد امتد أيضاً إلى محطات عالمية مرموقة مثل هيئة الإذاعة البريطانية، "بي بي سي"، التي تواجه هي الأخرى أوقاتاً صعبة دفعتها إلى تقليص عملياتها وإغلاق بعض الخدمات باللغات الأجنبية وتسريح صحفييها. ولكن يحدث ذلك فيما دول أخرى تراهن على التقدم الإعلامي وتنفق ملايين الدولارات على دعم محطاتها الأجنبية مثل روسيا والصين وقطر التي حققت قناتها "الجزيرة" نجاحاً مشهوداً في استقطاب المشاهدين في الشرق الأوسط، وكل هذه المتغيرات العالمية دفعت هيئة المحافظين المكلفة بالإشراف على عمليات البث التابعة لمحطة صوت أميركا برئاسة الصحفي المخضرم، والتر إيساكسون، إلى الاعتراف بضرورة الانخراط في عملية تغيير واسعة لتحسين مستوى الخدمات التي تقدمها صوت أميركا. وفي هذا الصدد تدعو خطة الهيئة إلى مزيد من "الابتكار والإدماج" لاستقطاب أعداد أكبر من المتلقين بواقع 216 مليوناً بحلول 2016، وهو طموح كبير حداً بهيئة المحافظين إلى الاستعانة بخدمات شركات استشارية لبلوغ هذا الهدف وتطوير عملياتها. ولكن التطوير المرتقب في صوت أميركا أثار أيضاً مخاوف العديد من الصحفيين والعاملين في المحطات الإذاعية المختلفة، ولاسيما في ظل قرار سابق للهيئة بإغلاق خدمة اللغات الصينية مقابل تعزيز خدمة التلفزيون والإعلام الاجتماعي قبل أن تتراجع عنه، حيث أثار ذلك القرار عاصفة من ردود الأفعال المستاءة ليس فقط من الصحفيين، بل أيضاً من أعضاء في الكونجرس ممن يدعمون خدمة البث الإذاعي حيث عملوا على تجميد القرار. والحقيقة أنه على رغم الصعوبات المالية التي تمر بها المحطات الإذاعية وخاصة تلك التي تبث عبر الموجات القصيرة، إلا أن مناطق نائية في العالم ما زالت تحتاج إلى هذه الخدمة وتعول على صوت أميركا لإيصالها. ولابد أولاً من توضيح الخلط بين إذاعة صوت أميركا وبين الخدمات العالمية التي تقدمها، فالإذاعة الأم المعروفة بصوت أميركا تسعى إلى نقل الثقافة الأميركية إلى الخارج وتعريف الشعوب الأخرى بالولايات المتحدة وسياستها الخارجية، فيما تركز الخدمات الأخرى على الأخبار المحلية في البلدان التي تبث فيها بسبب التضييق الإعلامي الذي تمارسه السلطات، ومن تلك الخدمات الأجنبية هناك مثلاً قناة "الحرة" وإذاعة "سوا" الموجهتان إلى العالم الإسلامي وتقومان بدور محسوس في تلك المنطقة. ثم هناك راديو "أوروبا الحرة" وهو إن كان من مخلفات الحرب الباردة إلا أن وجوده ما زال ضروريّاً في روسيا وأوروبا الشرقية التي لم تتحول بعد إلى منارة للديمقراطية. أما راديو "آسيا الحرة" فقد كان من بنات أفكار نائب الرئيس الحالي، جوزيف بايدن، الذي يعد من المدافعين عن البث الإذاعي لصوت أميركا، وقد سبق لي أن ترأست لجنة لمراجعة المحطة الموجهة لآسيا في عام 1991 وخرجت بخلاصة أنه من الضروري الاستمرار في البث، ولاسيما أن الصين تواصل تمددها في المنطقة. وهي نفس الخلاصة التي أقدمها اليوم لكل الساعين إلى تطوير خدمات صوت أميركا، إذ على رغم المعطيات الجديدة التي يفرضها الإعلام الاجتماعي والإنترنت والفضائيات يجب ألا يتسرع المسؤولون إلى إغلاق محطات، أو تسريح صحفيين أصبحوا اليوم من المكاسب الأساسية لصوت أميركا، بل إن من الضروري الحفاظ على صوت أميركا مسموعاً في العالم، والسعي إلى نشره في ظل المتغيرات الطارئة سواء في آسيا حيث التمدد الصيني، أو في الشرق الأوسط الذي يشهد هو الآخر تحولات كبرى الآن. جون هيوز مدير محطة "صوت أميركا" في عهد إدارة ريجان ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان سيانس مونيتور"