عندما كنت أعمل مراسلًا صحفيّاً في آسيا في سنوات الستينيات، كانت ثمة ثلاثة بلدان في المنطقة التي أغطيها محظور على الصحفيين الغربيين زيارتها هي الصين وفيتنام الشمالية وبورما (ميانمار). وقتئذ، قاومت الصين وفيتنام الشمالية الطلبات التي كنت أتقدم بها من أجل زيارة هذين البلدين خلال فترة عملي بالمنطقة على مدى ست سنوات. غير أن إحدى محاولاتي لزيارة بورما توجت، على نحو فاجأني مثلما فاجأ زملائي الأقل حظّاً، بحصولي على تأشيرة دخول واحدة لزيارة ذلك البلد. لقد كانت تجربة متميزة بالفعل، زيارة إلى دولة متخلفة ومغلقة يحكمها العسكر حيث كان الزمن يبدو متوقفاً. كان مرافقي ضابطاً في الجيش برتبة عقيد يعمل في قسم "معلومات" لم يكن يقدم أيّاً منها. وكان هو من يقرر لي من ينبغي لي أن أقابل ومتى. ولذلك، فإنني اضطررت لأن أجري حوارات سرية مع رجال دين بوذيين وأشخاص آخرين غير رسميين. ففي عطلة نهاية أسبوع كنت قد استأجرتُ فيه سيارة رباعية الدفع وسائقاً من أجل زيارة معابد "باجان" المذهلة، التي كانت مزدهرة من القرن الحادي عشر إلى القرن الرابع عشر، وفجأة رن الهاتف في غرفة الفندق الذي كنت أقيم فيه لدى عودتي من الرحلة. وكان مخاطبي هو العقيد المكلف بمرافقتي، فقلتُ له مبتهجاً: "لقد عدت لتوي من رحلة إلى باجان"، فكان أن أجاب قائلًا: "أجل، سيد هيوز، إننا نعرف ذلك". وفي الفندق الذي كان الأرقى من نوعه ذات يوم في العاصمة رانجون (التي أعيدت تسميتها يانجون)، كنتُ النزيل الوحيد بالفندق (وعندما ذهبت إلى المطعم الذي كان خاليّاً من النزلاء تماماً، كانت بعض من بقايا الأيام الكولونيالية البريطانية لا تزال موجودة، حيث أخبرني النادل المسن بأنه لا يمكن تقديم الطعام لي إذا لم أكن مرتديّاً معطفاً وربطة عنق، فذهب وجاءني بهذين الأخيرين اللذين كانا جاهزين للاستعمال من قبل الزوار القلائل). في تلك الأيام، كانت ولا تزال لدى الولايات المتحدة علاقات دبلوماسية مع النظام العسكري الحاكم. ولكن تحركات السفير الأميركي هنري بايرود، الذي كان يهوى النجارة، كانت قليلة لأن الأماكن التي كان يستطيع الذهاب إليها ظلت محدودة، فكان يمضي وقتاً معتبراً في مشغل النجارة حيث يمارس هوايته. والملفت هو أنه على رغم أن بعض الديكتاتوريات مثل الصين وفيتنام الشمالية كانت تمنح الصحفيين الزائرين في ذلك الوقت حرية التنقل -وإن مع كثير من القيود والمحاذير- إلا أن جيش بورما تمكن خلال نصف قرن من الزمن من الإبقاء على البلاد تحت حكم صارم وفي العصور المظلمة، حتى الآن. ولكن في إنجاز يحسب للدبلوماسية الأميركية، أدت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون زيارة إلى بورما مؤخراً حيث التقت مع تاين سين، رئيس البلاد الجديد الذي يَعد بإصلاحات، وزارت زعيمة المعارضة الأسطورية أونج سان سو كي التي باتت حرة اليوم بعد سنوات طويلة من الإقامة الجبرية، وأعلنت عن تخفيف بعض القيود الاقتصادية الأميركية، وتحدثت عن استئناف العلاقات على مستوى السفراء. وكانت رسالة وزيرة الخارجية هي أن الولايات المتحدة يمكن أن تقوم بتخفيف العقوبات، حسب الوتيرة والصدق اللذين تتقدم بهما بورما في ما يتعلق بوعود إطلاق سراح السجناء السياسيين، وإنهاء عزلة البلاد، وتحسين حياة المواطنين. وسيكون أمراً سعيداً بالفعل لو أن النظام أدرك أخطاء الطرق القديمة وتلمس طريقه اليوم نحو الديمقراطية. وفي هذه الأثناء، تقول سو كي إنها تثق في الرئيس تاي ساين مضيفة: "ولكنني لا أستطيع أن أقول إن الجميع في الحكومة لديهم الشعور نفسه". على أن هناك رأياً آخر يرى أن الحكومة تشاهد سقوط الأنظمة الديكتاتورية حول العالم ولذلك قررت التحرك قبل أن يعرف نظام بورما الاستبدادي الطويل نهاية مأساوية مماثلة. غير أن السبب الأرجح والأكثر براجماتية لهذه المصالحة المفاجئة مع الولايات المتحدة قد يكون القلق بشأن الخطاب القوي على نحو متزايد للصين المجاورة. وبذلك، تنضم بورما إلى صفوف دول جنوب شرق آسيا التي ترى في استعراض العضلات العسكري والاقتصادي الجديد من قبل الصين تهديداً لها. ومثلما قال لي رئيس سابق لأحد تلك البلدان مؤخراً، فـ"إننا نُحشر بين الصين وأميركا -ولكننا نفضل أميركا". ومما لاشك فيه أن إدارة أوباما أقدمت على خطوة موفقة في السياسة الخارجية تتمثل في تأكيد أوباما على أن الولايات المتحدة قوة تنتمي إلى منطقة المحيط الهادي وأنها ستتصرف بالطريقة المتوقعة من قوة عظمى. والأكيد أن بورما ليست سوى دولة تخشى اليوم احتضاناً أكبر من اللازم من قبل صين طموحة وقوية، ولذلك تحرص على علاقة متوازنة مع الولايات المتحدة. ------ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"