علينا ألا نشعر بالانزعاج مما يحدث في بلاد الربيع العربي، فالفوضى التي تعيشها هذه البلاد ظاهرة طبيعية؛ فالتحولات كبيرة، وهي أكبر مما تستوعبه الأطر القائمة. وبكل تأكيد فإن لدينا قوى كبيرة ومتماسكة لا تريد النجاح لهذا الربيع، وهي قوى تراهن على الفوضى لتثبيت مواقعها. فمصر دولة محورية والتحول فيها تهديد لمحاور أخرى صعدت خلال انشغال مصر بهمومها الداخلية. وليبيا تدخل نفق النزاعات التقليدية، وهي مرحلة قد لا تكون شراً كلها. والأهم أن الرهان على ركود المياه هو رهان خاسر، فهناك متغيرات عالمية، منها توحد ثقافي يدفع القوى الشبابية للإصرار على مطالبها، فهم الغالبية في مجتمعاتنا، لذلك علينا أن نتوقع مزيداً من المواجهات والعثرات في بلاد الربيع العربي، وألا ننزعج مما يحدث لأننا نؤمن بضرورة التغير الإنساني واستحقاقه. واليوم ثمة مطالب عادلة تتجسد في الكرامة الإنسانية الغائبة في معظم مجتمعاتنا العربية، فهي المحرك لما يحدث. فالمطالب تتجه نحو صياغة وثيقة تنظم الحكم، وتحدد المسؤوليات والواجبات، وتحد من الانفراد بالسلطة، وتقلل من الفساد، وتعزز الكرامة الإنسانية... فالدساتير الممنوحة لم يعد لها مكان، وهي تؤجل الصراع ولا تحله، لذلك لا مفر من مواجهة الواقع والتعامل معه بعقلانية. وبكل تأكيد فهذه فترة مخاض عسير، حيث تم عزل مجتمعاتنا عن التفاعل العالمي لعقود طويلة، واليوم نواجه بمطالب قد يقف الكثيرون ضدها، حيث تتحكم بعض القيم المنفرة من التغيير والتجديد وتدعو للصبر على مرارة الظلم في ظل أجواء توفر لنا حماية نفسية مزيفة بينما نشعر بالقلق المربك وبحدة الصراع الداخلي بين الرغبة في الدفع بالجديد وبين الإمساك بواقع الاستبداد. قال الجابري في أحد كتبه "إن الديمقراطية في الوطن العربي، هي اليوم أكثر من أي وقت مضى ضرورة، لا من أجل التقدم وحسب، بل من أجل الحفاظ على الوجود العربي ذاته". بمعنى أن وجودنا مهدد بغياب الديمقراطية، ومطالب شبابنا مشروعة وتحقيقها يفرضه الواقع العالمي الجديد. فالربيع العربي ليس ظاهرة عربية فحسب إلا بقدر ما هو انكسار عالمي أصاب طموحات الشباب، وهؤلاء يتعاضدون بمطالبهم وإن اختلفت مشاربهم الثقافية، لكنهم يشعرون بالتهميش، وهم اليوم ينتفضون لحقوقهم ويحلمون بمجتمعات إنسانية تحفظ كرامتهم. نحن اليوم لا نواجه سلطة الحكم بقدر ما نواجه سلطة الثقافة العربية المستبدة، وهي ثقافة ضاربه بجذورها، والمواجهة لن تكون هينة. ورغم غيوم اليأس التي تملأ سماءنا، فإن قوة التغيير تندفع ولن توقفها قوة الاستبداد. فما نلاحظه من تحالفات بين الحكم والقوى "الوطنية" التقليدية هو نتاج لثقافة الاستبداد، وهذه القوى ما هي إلا نتاج لبيئة تخاف التغيير كما تخافه السلطة. علينا أن ندرك بأن الديمقراطية لا تتحقق بين ليلة وضحاها، وهي ليست صيغة جاهزة نستوردها بقدر ما هي تحولات تدريجية تتطلب العمل الدؤوب نحو تغيير ثقافة مستبدة هيمنت على مجتمعاتنا لعقود من الزمن. ولعل ما نشاهده اليوم من صراع في المشهد المصري بين القوى الشابة والتقليدية قد يبني مستقبلاً جديداً تتحقق فيه كرامة الإنسان.