"مما كان يتبادر إلى ذهن المرء ماذا يحصل لهؤلاء النَّاس إذا لم يتم اكتشاف النفط، فسبل معيشتهم، التي تعتمد كلياً على صيد اللؤلؤ، أصبحت مستحيلة، فلابد من الحصول على النفط. مثل هذه الأفكار لم تكن تفارق عقولنا" (هندرسون، ذكريات عن الأيام الأُولى). نعم، الثَّروة النفطية عامل مهم فيما وصلت إليه دولة الإمارات العربية المتحدة، لكن هل يكفي انفجار النفط لبناء دولة حديثة العُمران والإنسان على كثبان عطشى، إذا لم يدبرها عقل ويحفظها ضمير؟!إذا لم ينشأ تصالح بين العقل والثَّروة؟! أجد أبناء البلدان ذات المخزون النفطي الهائل، مع البؤس الهائل أيضاً، هم الأكثر تمعناً في تجربة الإمارات، كيف تصالحت (1843) وتوحدت (1971)! لو قرأت عن الصِّراعات المحتدمة بين قبائل المنطقة قبل التَّصالح ثم التَّوحد، لأخذك العجب كيف تلاشت الفواجع وذاب النَّاس في كيان واحد، فصارت الرايات السَّبع واحدةً قبل أربعين عاماً، مدعومة بدستور لا يُحاد عنه. صحيح أنها الثروة، لكن لولا العقل المدبر لتحول أمرُها إلى استباحات وصناعة للتخلف. نعم، للنفط دوره في النهوض، لكنها مادة بحاجة لمن يُصيرها من نار حارقة إلى ماء برود يحيل الأرض القاحلة رياضاً خضراء، تقصدها الشعوب للعمل والسياحة والطب وشراء الكتب. لقد ظل النفط، مع غزارته وجودته، ببلدان عديدة مثلما كان عند الأقدمين، مادة منحوسة، في المنام تعني: "سلطان جائر وزوجة خائنة" (ابن سيرين، الأحلام الكبير). استخدمت سلاحاً في العصر العباسي، ومتوليها كان مذموماً، مثلما قيل في من تولى ما عُرف بالنَّفاطات: "لحفظ عيون النفط أظهرت نخوةً... فكيف به لو كان مسكاً وعنبراً" (البيهقي، المحاسن والمساوئ). وما سُمّي النَّحوي إبراهيم (ت 323 هـ) بنفطويه إلا "لدمامته وأدمته تشبيهاً له بالنفط» (ابن خلّكان، وفيات الأعيان). وقال الأصمعي (ت 216 هـ) هاجياً إحداهنَّ: "كأن بين إبطها والإبط.. ثوباً من الثُّوم ثَوى في نفط"! أقول: كيف غدت مادة النفط إحدى مسببات الحضارة إذا صارت بيد حكيمة؟! بلاد مثل الإمارات كيف كانت وكيف صارت، يُحسب لها حسابها في المحافل الدولية، وما تحاوله الآن عبر تجربة "مدينة مصدر" لإيجاد البديل استعداداً لما قد يواجهها بعد نضوب النِّفط، وهو يوم قادم لا مناص منه. بالمقابل انظروا ماذا فعلت هذه المادة ببلدان أُخر، عاد نفطها النَّافط مِن رحم أرضها يوزع على أهلها صابوناً وعدساً بواسطة الأمم المتحدة، كأنهم شحاذون، وهم من أكرم الشعوب. فلا الأرض تزرع، وهي الأخصب، ولا الثَّروة تجلب ما يسد الرمق وهي الأغزر. فعندما لا تجد مادة النفط ضمائرَ تحنو على شعوبها يعود إلى رؤية الأولين: نحسة الفال. سألتُ عن ماء الشُّرب فقيل: مِن البحر! فلا أثر للآبار، فقد طويت وظلت أثراً مِن الآثارِ، وما عدا أفلاج العين، ولا يسقي ماؤها سوى نخيلها. ولأنني ابن الماء العذب الذي بدأ يجف، أخذني العجب كيف يحيا الإنسان ويُشيد العُمران ويؤسس النِّظام الدقيق في الحياة، وهو يشرب البحر! أليس عندما يستخف إنسان بآخر يقول: "اشرب من البحر" لأنه غزير ويزيد العطش! رأيت واحدة من محطات تحلية مياه البحر في أقصى الغرب، حيث جبل الظَّنة، ومِن هناك تزود جزيرة "صِير بني ياس" الرَّائعة بالماء عبر أنابيب مُدت تحت البحر. ظاهرة تسر الإنسان أيما سرور، ومازال هناك مَن هو كاره لها، لتعصبه وغضبه مِن تخالط الأمم على أرض الإمارات؛ وهي المجاورة بين المساجد والكنائس. ولا أظن أن أرضاً يسودها العُمران تبقى جافة من روح التَّآخي، وما أكثر سامعي الأَذان وسامعي النَّاقوس أيضاً، مِن الوافدين العاملين، فاقتضت الحكمة تسهيل الصَّلاة على مختلف الطرائق، فالله لم يخلق البشر إلا مختلفين، أليس هو القائل: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً" (هود: 118)؟! عمرت الأرض وغدت الرِّمال اليابسة طرية خضراء، وشيدت الشَّواهق من العمائر وكل ما يجذب الشعوب وهي راغبة، وعَلم المعمرون أن هذا لا يعني حضارةً إذا لم تُسن قوانين يتطبع بها الناس، من المواطنين والوافدين، فتشعر المرأة هنا بالأمان والمساواة في الوقت نفسه، فالدولة تُحرم التحرش تحريماً قاطعاً وبقانون صارم، وبالفعل لا تلاحظ هذه الظاهرة في الطرقات وأماكن التَّسوق. ودُعم ذلك بمنح المرأة ما حرمته عليها العديد من الدُّول وفقاً لفروعها الفقهية، مع أنها ذات تاريخ حضاري عريق، وهي وظيفة القضاء والولاية كالوزارة. لا ترى حالة شجار بين القاطنين لهذه الأرض، لأن القانون قاسٍ، إلى جانب أمن شخصي غير منقوص. لقد تحولت القوانين إلى طبائع يعيشها البشر. للإمام أبي حنيفة (ت 150 هـ) قول بليغ: "رأيت المعاصي نذلةً فتركتها فصارت ديانة" (المكي، مناقب أبي حنيفة). ولا أشد عصياناً مِن قهر المرأة في الطَّريق والمعاملة. سألت الدُّكتور عدنان الباجه جي، وهو الشاهد على عسر الإمارات ويسرها، عن سرِّ التميز، مع أن البيئة الحاضنة قاسية لم تترك أثر مدنية لا في الأرض ولا في النفوس، ولا أظن ظهور النِّفط كان كافياً، حتى صارت الجنسية الإماراتية والعمل على هذه الجزر مطلباً للغرب قبل العرب؟! قال: "كان للفرد دور حاسم. وجدت المؤسس الشَّيخ زايد حكيماً، يفكر بتأنٍ، ومسالماً جداً، لا يحب إيذاء أحد، ضالته العُمران، وإعمار الإنسان بالتعليم. استطاع حل كل الخلافات مع الجوار، وربح السَّلام، والالتفات إلى الداخل. سمعت منه أن سأل وزير خارجية دولة هائلة الثروة، بينما غلبت المصائب عليها: كم صار لكم في الحكم؟ أجاب: 35 عاماً. فقال الشَّيخ بقدر سني حكمي. لكن ماذا فعلتم لوطنكم وشعبكم؟! فسكت الوزير". أترى الجواهري (ت 1997) نظم الآتي مِن مشاهدةٍ أم توقعٍ، فالتاريخ 1979، والرِّمال لاتزال آنذاك تسفي على الغرائس والفسائل، ونتائج النهضة كانت غير واضحة المعالم، قال: "يسيل بمالح عذب فراتٌ.. وفي الرَّمل اليبيس يرقُ عودُ.. فقلتُ وفي البداوةِ ما يُزين البداة.. وفي الحضارة ما يُشيدُ" (الديوان). أرى في البيت الأخير إيماءة للتوازن المقبول بين الحضارة والبداوة. فالنَّاس هنا بثيابهم وتقاليدهم لم يجحدوا بأُصولهم، ولم يغلقوا الباب بوجه التقدم والحضارة. أغبطهم، لا أحسدهم، وهم يحتفلون بالأربعين لتأسيس بلادٍ راقية، مما يشبه العدم.