ستبلغ، بعد يومين، التجربة التنموية في دولة الإمارات سن النضج السياسي وستحتفل الدولة كلها باليوم الوطني الأربعين للاتحاد، المختلف والمتميز في كل شيء. وفي الذكرى الأربعين لبدء المسيرة التنموية، في الثاني من ديسمبر 1971، يتأكد للمراقب الموضوعي والمحايد أن ثمة أمراً ظل مستمراً خلال كل هذه الفترة؛ وهو الاهتمام بمجالات التنمية الشاملة. الإمارات، وبلغة الأرقام التي لا تعرف الكذب وليس بالتمنيات والشعارات الفارغة، استطاعت أن تخلق لنفسها أسلوبها الخاص في التنمية المستدامة وفق معادلة ثلاثية الأضلاع: خدمة الإنسان على أرض الدولة، مواطناً ومقيماً... وتحقيق الاستقرار والأمن الداخلي مع عدم التأثر بما يحدث في الإقليم أو في العالم... ثم الاحتفاظ بخصوصية العلاقة التي تربط الحاكم بالمحكوم. وهي معادلة لا يوجد لها مثيل في أي دولة في العالم. لم تتأثر الدولة بما يجري حولها، ولم يشعر من يعيش في أرضها بأي تغيرات رغم ضخامة ما يحدث. الأمر أقرب إلى "الخيال" أو مدينة أفلاطون الفاضلة منه إلى الواقع، لكنه مَعيش ومحسوس في الإمارات. وبمتابعة المؤشرات الموجودة على الأرض خلال أربعين عاماً الماضية، وبقراءة الخطط المستقبلية الموضوعة، فمن المؤكد أن الإمارات مصرّة على الذهاب إلى النهاية في تجربتها التنموية المتركزة في خدمة الإنسان على أرضها، خاصة بعد أن تأكد نجاحها. كما أنها مصرة على إعطاء الفرصة لجيل الشباب وتمكينهم ليأخذوا مكانهم ويسهموا في بناء الدولة من خلال السياسة التي أعلن عنها صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان إبان تسلمه مقاليد الحكم في عام 2004. والحديث عما تحقق في دولة الإمارات لا يعني في أي شكل أنه يتم دون وجود أي تحديات أو عقبات بقدر ما يعني كيفية معالجتها بهدوء وعقلانية لضمان انسيابية الاستمرار في تطوير هذه التجربة والأخذ بها حتى باتت تسجل في كل يوم جديدٍ إطلاقَ العديد من البرامج والمشاريع التنموية؛ من بنى تحتية تضمن أسباب رفاهية المواطن واستقراره وتمكينه في كافة مناحي الحياة. فقرارات توزيع الفلل والبيوت على المواطنين لا يمكن حصرها، فهي لم تعد مرتبطة بمناسبة محددة. كما أن إطلاق المساجين وتسديد الالتزامات المالية التي تثقل كاهلهم للبنوك هي عادة إماراتية، آخرها كان قبل يومين. أما عن تعيين المواطنين فهذا أمر متحقق؛ كل ذلك من أجل خدمة المواطن والإنسان في الإمارات. وتتسع مساحة المكرمات لتشمل التجاوز عن هفوات ارتكبها البعض محاولا التسبب في زعزعة الاستقرار، حيث أعلن رئيس الدولة قبل يومين عفوه عن المتهمين الخمسة في قضية أمن الدولة. من المهم فهم هذه التجربة، وهذه العلاقة بالشكل الصحيح باعتبار أن الإنسان بشكل عام هو الثروة الأولى في الدولة، وأن الثروات -كما قال المغفور له الشيخ زايد مؤسس الاتحاد- لا نفع لها من دون وجود الثروة الإنسانية التي باتت اليوم رأس مال الإمارات. هناك الكثير من القرارات والأنشطة والفعاليات اليومية تعطي فكرة حقيقية عن كيفية استغلال ما لدى الدولة من إمكانات في خدمة مواطنيها باعتبارهم الثروة الحقيقية. بل إن التنوع في المشاريع التي تحقق الرفاهية للإنسان الإماراتي وضخامة العمل الخيري في خدمة الإنسان في أي بقعة من العالم، هو السجل الإماراتي الذي لا يمكن لمراقب محايد أن يتجاوزه أو يتخطاه خلال أربعين عاماً الماضية. لقد تطورت المشاريع التنموية من مدارس ومستشفيات وأماكن ترفيه؛ الإمارات أكثر دولة في الإنفاق على الترفيه في الشرق الأوسط. مؤشر له دلالة فيما يخص أسلوب العيش. وما ينطبق على هذه المشاريع ينطبق على كل من النقل، والخدمات الإنسانية، والبنية الأساسية عموماً. الفكرة هنا أنه لم يكن ذلك ليحدث لولا وجود رؤية سياسية واضحة للمستقبل وقدرة على مواجهة التحديات الداخلية بحنكة مثل مواجهة العواصف الأمنية والعسكرية في الإقليم الذي لا يعرف الاستقرار أصلاً، أو الأزمات العالمية كالأزمة المالية والأزمات السياسية والإرهاب. يكفي المقارنة بين ما حققته الإمارات خلال أربعين عاماً الماضية وبين ما حققه الآخرون في مجال التنمية للتأكد بأن ما حصل يمكن أن نطلق عليه "معجزة تنموية" حقيقية. منذ قيام الإمارات كان الاهتمام بالتنمية هو الهدف الأول لدى قيادتها السياسية التي اتخذت في كثير من المواقف قرارات شجاعة مبنية على دراسة متعمقة؛ حفاظاً على المنجزات. فكان هذا هو السلاح الذي مكّن الإمارات من تخطي الآخرين وتطوير ما لديها من إمكانيات، فكانت صاحبة تجربة تنموية حقيقية، بحيث وضعت كل تلك المؤشرات الإمارات على خطوط تماس مع الدول المتقدمة. وتكمن أهمية التجربة الإماراتية في الوقت الحاضر في أنها استطاعت تحقيق استمرارية لمدة أربعة عقود من دون كلل أو ملل؛ استناداً إلى أن الإنسان هو الهدف، ومن هذا المنطلق تبدو الحاجة اليوم أكثر لدى الدول الأخرى إلى فهم تفاصيل هذه التجربة و"أسرارها" للاستفادة منها في علاقة الحاكم بالمواطن، والقائمة على فكرة أن التواجد في قمة الهرم السياسي هو "تكليف" في الأساس، وأن الثروة لابد أن توظف في خدمة المواطنين وفق الدستور وقانون الدولة. لابد أن يدرك الجميع أن أي نجاح تنموي يتطلب استقراراً سياسياً وأمنياً، وهذا البند لا ينبغي أن يغيب عن أحد وهو يتحدث عن دولة الإمارات. وربما نرى شواهد كثيرة في المنطقة توضح مدى أهمية هذا العامل في تحقيق ما نراه، وهناك مَن حاول أن يتناساه أو ألا يستوعبه، وهذا يتطلب حزماً وجرأة في التعامل معه، كي لا يعمل على تخريب ما أنجز! في الإمارات الطموح كبير جداً، وفي كثير من الأحيان لا يكون هذا الطموح بعيداً عن الواقع، لأن العزيمة السياسية قوية ولأن شعب الإمارات هو الهدف النهائي للقيادة.