ونحن نقيم حصيلة الصراع في ليبيا الذي انتهى بمقتل القذافي علينا ألا ننجرف وراء نشوة النصر الذي حققه الثوار وبسط سيطرتهم على جميع أنحاء البلاد، بل يتعين النظر إلى الطريقة التي جرت بها الأمور طيلة فترة الحرب الأهلية التي دامت ثمانية أشهر منذ اندلاع الانتفاضة في مدينة بنغازي وامتدادها إلى المناطق الغربية، فضلاً على ضرورة تقييم الدور الغربي في تأمين الانتصار وتداعياته على احتمالات التعاون الدولي في المستقبل. وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى انتقاد أساسي يُوجه إلى القوى الغربية التي ساهمت من خلال حلف شمال الأطلسي بعد حصولها على تفويض أممي في إنجاح الثورة والقائل بأنها تعرضت لخديعة من قبل الإسلاميين في ليبيا، الذين عرفوا كيف يستفيدون من التدخل الأجنبي لتحقيق أجندتهم الخاصة والوصول إلى الحكم. لكن الجميع اليوم بات على علم بخرافة الإسلاميين التي لجأ بعض الحكام إلى استخدامها لإعاقة التطور الديمقراطي في بلدانهم، وهي الذريعة ذاتها التي اعتمد عليها النظامان في تونس ومصر لخنق المعارضة والترويج لنظاميهما لدى الغرب المتخوف أيضاً من حكومات إسلامية متشددة. ومهما يكن الأمر، تقتضي الديمقراطية الحقيقية إتاحة الفرصة للشعب للتعبير عن رأيه وإيصال من يراه ملائماً إلى الحكم، هذا بالإضافة إلى المبالغات التي تحيط عادة بالإسلاميين عندما تصورهم بعض الدوائر في الغرب، وحتى في البلدان الثائرة على أنهم نسخة شبه الأصل من "طالبان" الأفغانية. والحال أن الحركات الإسلامية في العديد من البلدان خضعت لتطور ملحوظ في مسارها ومراجعات متكررة لسياستها جعلت تبدو أقرب ما يكون إلى الأحزاب المسيحية الديمقراطية في أوروبا. ولعل نموذج حزب "النهضة" التونسي خير مثال بعدما أثبت قدرته على تطمين الرأي العام الداخلي والانخراط في تحالفات مع باقي القوى السياسية. وفيما يتعلق بليبيا، فإنه من السابق لأوانه التكهن بمآلات المستقبل، وما إذا كانت البلاد ستسير في طريق الديمقراطية، أم أنها ستنجرف نحو التشدد الديني، لا سيما في ظل الفوارق المهمة بين الثورتين في مصر وتونس ونظيرتهما في ليبيا، فهذه الأخيرة كانت ثمرة حرب شرسة خاضها الثوار مع كتائب القذافي واستُخدمت فيها الأسلحة بكثافة، كما خلفت الآلاف من الضحايا. والأهم من ذلك ربما هو منسوب الشرعية الناجم عن الثورة، فبعد المساعدة الغربية للثوار والتدخل المباشر لحسم المعركة من خلال الضربات الجوية، لا شك أن ذلك سينال من شرعية الثوار وإنْ قليلاً مقارنة مع الثورتين المصرية والتونسية اللتين كانتا محليتين بامتياز، غير أن التدخل الدولي في الثورة الليبية والانخراط الكبير للقوى الغربية بقيادة فرنسا التي راهنت على الثوار منذ البداية لن يمر دون ثمن، إذ رغم التحفظ والمخاوف الصينية والروسية من النوايا الغربية، صوتتا مع ذلك على القرار الأممي رقم 1973 الذي يبيح حماية المدنيين، والحال أن هذا القرار الصريح الذي يقصر التدخل الغربي على إقامة منطقة للحظر الجوي لحماية المدنيين من عسف نظام القذافي وآلته العسكرية سرعان ما اختلط مع هدف إسقاط النظام نفسه ليشعر الروس ومعهم الصينيون بأنهم خدعوا بالموافقة على القرار، وهو بالطبع ما سيؤثر على قرارات أممية قادمة فيما يتعلق بسوريا وإيران، بحيث من غير المرجح أن تنقاد روسيا والصين وراء التطمينات الغربية بعدم إسقاط الأنظمة والاكتفاء فقط بما جاء في منطوق القرارات. وبهذا المعنى يمكن اعتبار الانتصار الليبي الذي كان مشتركاً بين الثوار والقوى الغربية أنه جاء على حساب التعاون الدولي كما تجسد في التوافق على القرار 1973، علماً بأن التخوف الدولي لم يقتصر على روسيا والصين، بل امتد إلى القوى الناشئة في العالم مثل البرازيل والهند وجنوب أفريقيا التي كانت أكثر حذراً في تصديق حلف شمال الأطلسي. ولا بد أيضاً ونحن نقيم الثورة الليبية وما صاحبها من أمور الإشارة إلى مفهوم "الحماية المسؤولة" الذي وضعه كوفي عنان الأمين العام السابق للأمم المتحدة، حيث كان الغرض منه جسر الهوة بين العجز التام إزاء حالات الطوارئ الدولية التي تتعرض فيها مجموعات سكانية لخطر أمني محدق حتى لو كان ذلك أمراً داخلياً مرتبطا بالنظام، وبين التدخل العسكري الأهوج الذي يفضي إلى أضرار أكبر وتآكل في مصداقية الأمم المتحدة. وكان الهدف من المفهوم الجديد أيضاً ألا تفلت الأنظمة التسلطية التي ترتكب جرائم حرب ضد مواطنيها من العقاب دون السماح للقوى التقليدية الغربية بالتدخل العسكري، غير أن هذا المفهوم تعرض للتقويض في ليبيا عندما تجاوزت القوات الغربية المنضوية تحت لواء حلف شمال الأطلسي مهمة حماية المدنيين إلى الاصطفاف مباشرة مع الثوار ودعم أجندتهم الرامية إلى إسقاط النظام، وهو ما عرض "الحماية المسؤولة"، كما أرادها كوفي عنان، إلى امتحان عسير سيقلل من فرص تطبيقه في المستقبل. وحتى الإطار الأمني الأوروبي القائم على التعاون والتنسيق للخروج بسياسات موحدة اختل في أثناء الحرب الليبية، فقد تبنى ساركوزي قضية الثوار الليبيين منذ البداية، وكانت فرنسا أول دولة أوروبية وعالمية تعترف بالمجلس الوطني الانتقالي كممثل شرعي ووحيد للشعب الليبي الأمر الذي أغضب المستشارة الألمانية، التي كانت تطالب بالتريث. ففي انفراد ساركوزي بالاعتراف بالمجلس الوطني الانتقالي نسف للسياسة الأمنية الأوروبية الموحدة وخروج عن التنسيق المشترك، يضاف إلى ذلك أن الثورة الليبية لم تبت بعد في بعض الاتهامات الموجهة للثوار بانتهاكهم لقواعد الحرب. ورغم بطش كتائب القذافي وتجاوزاتهم الخطيرة ضد الشعب الليبي، فإنه أيضاً يتيعن النظر في الاتهامات المقابلة التي أشارت إلى انتهاكات من جانب الثوار.