حصل لي شرف إلقاء محاضرة عن التحديات والتحولات التي يعرفها العالم العربي في مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، وسعدت بتواجدي في هذا المركز لما يقوم به من دور حيوي ومتميز في دعم مسيرة الاتحاد في دولة الإمارات العربية المتحدة وصياغة أفكار وتقديم مقترحات وتوجيهات متميزة لمواجهة كل التحديات والعمل على الارتقاء بالمجتمع وتحقيق النهضة الشاملة، وكنا منذ ما يزيد عن عشرة أشهر قد تناولنا في صحيفة "الاتحاد" بالدرس والتحليل دور مراكز الدراسات في عالمنا المعاصر وكيف أن القيادات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العديد من دول العالم خاصة الغربية منها، تتأثر بما تقدمه مراكز الأبحاث من دراسات وتقارير وكيف تؤثر على الرأي العام عن طريق مجموعة من الأساليب المتطورة، وقلنا إن دور هذه المراكز يجب أن تتقوى في عالمنا العربي وتساهم في التجديد المعرفي والتخطيط المستقبلي، ومركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية يشكل نموذجاً يحتذى به وله سيرة تمتد على مدى سبع عشرة سنة حقق فيها العديد من الإصدارات وأنجز العديد من النشاطات العلمية والاتفاقيات والزيارات الهادفة ونشر العديد من الدوريات والنشرات التحليلية والدراسات والبحوث واستطلاعات الرأي وبرامج التدريب وغيرها وكَوَّنَ مكتبة فريدة متخصصة في مجال العلوم السياسية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية مما جعله يتبوأ مكانة عالية بين المراكز البحثية والاستراتيجية العالمية. والنقطة الأخرى التي استرعى انتباهي خلال زيارتي الأخيرة لدولة الإمارات العربية المتحدة التي تحتفل بعيدها الأربعين، والتي تشير إليها كل التقارير الدولية بالإشادة، هي المستوى العالي من التطور والتنمية المتسارعة الذي تشهده الدولة حتى أصبحت مدنها مدناً معولمة تجذب رؤوس الأموال من كل أركان الأرض، وقد أعطى قادتها الأولوية لمجالي التربية والتعليم اللذين هما مستقبل العالم أجمع... وقد انطلقت من هذه الملاحظة في محاضرتي في نوع من أنواع الرياضة الذهنية عن مآل ومستقبل أمتنا العربية التي هي منبع أملنا ومصدر قلقنا وجوهر همنا لنقف في موقع هو بالأساس موقع العلم والبحث والتساؤل. وجمعت تلكم التحديات في معادلات تشكل في نظرنا عقداً اجتماعيّاً عربيّاً جديداً يخرج النظام العربي من سباته ويُموقعه في مركز الريادة ويجعل كل قطر فيه يدخل قاطرة التنمية. ولا يتسع المقام هنا لاستحضار تلك المعادلات وإنما سنركز على أهمها: - إن العالم في حاجة إلى تطوير التعليم لأن نهضة الأمم تكون بالعلم؛ ولنأخذ مثال الولايات المتحدة الأميركية واليابان حيث نجد أن البحث العلمي المتقدم وجودة التعليم هما أساسان في قوة الاقتصادين وهيمنتهما، وتشير معظم التقارير الصادرة من البنك الدولي إلى مستوى التعليم المتدني في عالمنا العربي، ويحتاج نظام التعليم العربي إلى إصلاحات عاجلة لمواجهة مشكلة البطالة وغيرها من التحديات الاقتصادية، والدول العربية ما زالت متخلفة عن كثير من الدول النامية في هذا المجال، كما خصصت الدول العربية 5% فقط من إجمالي الناتج المحلي، و20% من إجمالي الإنفاق الحكومي على التعليم خلال الأربعين سنة الماضية، وتوجد فجوات كبيرة بين ما حققته الأنظمة التعليمية في العالم العربي، وبين ما تحتاجه المنطقة في عملية التنمية الاقتصادية. - وهذا الجانب يحيلنا على معادلة أخرى وهي التنمية المستدامة في عالمنا العربي، إذ يخطئ بعض المحللين عندما يقولون إن التنمية المستدامة تتصلب أركانها بمجرد وصول الديمقراطية عن طريق الانتخابات بصفة دورية ومستمرة، فالديمقراطية معادلة صعبة يدخل فيها السياسي والتنموي، إذ بدون تنمية اقتصادية وتنمية مستدامة تَعوَجُّ أغصان شجرة الديمقراطية بل قد تذبل ويصيبها الأذى ويحكم عليها بالزوال. - زرع الثقة بين الحاكم والمحكوم وبين الدولة والمجتمع، لأن على الجميع أن يعمل في إطار المؤسسات وفي إطار الدولة الأم ومحاولة الإصلاح من الداخل بعقلية جديدة وبأفكار متنورة جديرة وبالمحافظة على القشرة الحساسة الحامية لهيبة الدولة ولمبدأ ديمومة المؤسسات. - الدول العربية فهمت أنها تكون قوية بتماسك مجتمعاتها وتفاهم الدولة والمجتمع وعقدها الاجتماعي، بمعنى أنها فهمت أخيراً أن الوصاية الخارجية لا تسمن ولا تغني من جوع، وأن معادلة عيش الدولة بين سندان الخارج ومطرقة المجتمعات معادلة سلبية، فالاستقواء يكون بالمجتمعات والدول تكون قوية بمجتمعاتها. - المنظومة العربية ينبغي أن تبدأ جادة في موضوع إصلاح الجامعة وأن يكون هذا الموضوع حجر الزاوية في أولوياتها ومبدأ رئيساً في كل الاجتماعات لاجتثاث كل المساوئ التي ضربت جذور النظام العربي وخلقت حالات من الالتباس السياسي والارتباك في فقه الأولويات والاضطراب في العلاقات العربية- العربية وبتر عجلة النمو والتنمية المستدامة في عالم معولم يعطي الأولوية للتكتلات البناءة والتجمعات القوية، وهذا خلل مبين يحتاج منا وقفة تأمل ومراجعة مع الذات ونقداً متمكناً وإرادة سياسية حقيقية لتقود الجامعة بذلك سفينة التنمية في عالمنا العربي. واَخر الكلام، يومان بعد تاريخ إلقاء محاضرة في مركز الإمارات، ترأس ملك المغرب بمعية ولي عهد أبوظبي وأمير دولة قطر ووزير المالية الكويتي في الرباط حفل التوقيع على عقد إنشاء الهيئة المغربية للاستثمار السياحي: فانخراط دول عربية شقيقة من الخليج العربي في التنمية المستدامة التي يعرفها المغرب ومن خلال ذلك الرفع من درجة التنمية في عالمنا العربي دليل على أهمية تضافر الجهود العربية لتحقيق التطور في عالمنا العربي، ويؤكد هذا المنحى أيضاً ما قلناه في صحيفة "الاتحاد" الأسبوع الماضي أن دول مجلس التعاون الخليجي والمغرب والأردن بإمكانها أن تقود سفينة النظام العربي المقبل.