شهد الاستهلاك العالمي من الغازات المسيلة للدموع تزايداً مطرداً في الفترة الأخيرة دفعت به خلال الشهر الماضي ربما إلى أعلى المستويات على الإطلاق في الذاكرة الحديثة. فبخلاف قوى الأمن المصرية التي تمطر المتظاهرين في ميدان التحرير والشوارع المتفرعة عنه بالغازات المسيلة للدموع منذ يناير الماضي، وقوى الأمن السورية التي تصبه صباً على "العصابات المسلحة المدعومة من قوى خارجية" في مدن وقرى وحقول الشام، لجأ أعضاء البرلمان الكوري لاستخدام عبوات الغازات المسيلة للدموع داخل مبنى البرلمان، لإظهار معارضتهم وغضبهم على اعتماد اتفاقية التجارة الحرة مع الولايات المتحدة، كما لجأت قوات مكافحة الشغب الفرنسية في الأسبوع نفسه لاستخدام الغازات المسيلة للدموع لتفريق المتظاهرين الساعين لوقف مسيرة قطار محمل بالنفايات النووية من شمال غرب فرنسا إلى ألمانيا، هذا طبعاً بالإضافة إلى الجيش الإسرائيلي الذي يعتبر أفراده استخدام الغازات المسيلة للدموع ضد الشعب الفلسطيني الأعزل مجرد روتين يومي. وحتى حكومات بعض الدول الأفريقية، التي لا تملك المصادر المالية لإطعام جياع شعوبها، أو توفير أبسط أشكال الرعاية الصحية، تجد في ميزانيتها مصادر مالية كافية لشراء عبوات الغازات المسيلة للدموع بالدولار من الولايات المتحدة، أو باليورو من الدول الأوروبية، كما هو الحال مع زيمبابوي، التي اتهمت مؤخراً قوى المعارضة فيها السلطات الحكومية بإطلاق الغازات المسيلة للدموع على المقر الرئيسي للحزب المعارض، أو في ليبيريا التي استخدمت فيها الغازات المسيلة للدموع لتفريق المظاهرات خلال أول انتخابات رئاسية تنظم محليّاً، بعد 14 عاماً من الحرب الأهلية. وفي الولايات المتحدة، التي تعتبر حرية التعبير فيها من البنود الأساسية المتضمنة في الدستور، أصبح من المعتاد استخدام الغازات المسيلة للدموع لتفريق متظاهري حملة "احتلوا وول ستريت" المناهضة للجشع الرأسمالي. ولن يتسع المقام هنا لذكر جميع الأحداث والمناطق التي أصبحت الغازات المسيلة للدموع جزءاً من المشهد المحلي فيها، وإن كانت الصورة العامة توحي بعالم تغطيه سحابة سوداء -أو بيضاء- من الغازات المسيلة للدموع. وهذا الاستخدام الواسع، أو بالأحرى الإفراط في الاستخدام، أثار القلق لدى كثيرين من الآثار الصحية الناتجة عنها، وخصوصاً في ظل تزايد الاتهامات من قبل المتظاهرين في ميدان التحرير بأن قوى الأمن المصرية، لجأت في الجولة الأخيرة من المصادمات، لاستخدام نوع أقوى من الغازات، لم يعهده المتظاهرون من قبل، مع تواتر ادعاءات بوقوع حالات إغماء وتشنجات عصبية، مصحوبة بسعال شديد وبصاق دموي. وللأسف، لا يمكن تأكيد هذه الادعاءات، أو أخذها على أي محمل من الجد، في ظل حقيقة عجز أصحابها عن إبراز أية عبوة من الغازات المسيلة للدموع استخدمت في شوارع القاهرة، تحتوي على نوع آخر غير النوع المعتاد وشائع الاستعمال في جميع دول العالم، والمعروف اختصاراً بـ (CS) . فعلى رغم وجود أنواع أخرى من الغازات المسيلة للدموع يزيد عددها على خمسة عشر نوعاً مثل (CR & CN)، إلا أن شدة سُمية هذه الغازات قد دفعت بها إلى خارج النطاق الاعتيادي لممارسات مكافحة الشغب والتحكم في الجموع الغفيرة. فالغاز الأول أو (CN)، تتسبب التركيزات المرتفعة منه في تلف قرنية العينين، ونزيف وتورم الملتحمة -الطبقة الخارجية البيضاء من العينين- بالإضافة إلى تواتر تقارير عن تسببه في خمس وفيات على الأقل نتيجة تلف الرئتين والاختناق، ولذا فقد استبدل تماماً -تقريباً- بغاز الـ(CS) شائع الاستخدام حاليّاً، بسبب فعالية الأخير، وسميته الأقل، وقدرته الأكبر والأسرع على تفريق المتظاهرين وجموع الشغب. أما الغاز الثاني (CR)، فيعود تاريخ آخر استخدام موثق له إلى عقد الثمانينيات، في مدن الصفيح بجنوب أفريقيا، أثناء المظاهرات المناهضة لسياسات الفصل العنصري، مسبباً عدداً من الوفيات، وخصوصاً بين الأطفال. وتحظر الولايات المتحدة استخدام هذا الغاز في تفريق المتظاهرين بسبب الاشتباه في تسببه في الإصابة بالسرطان، كما أن الجيش الأميركي يصنفه كأحد الأسلحة الكيميائية التي تتسبب في أعراض جانبية خطيرة للبشر. ومن المستبعد أن تكون قوات الأمن المصرية -أو حتى السورية- قد لجأت لاستخدام هذين النوعين الأخيرين، ليس بسبب شدة سميتهما فقط، ولكن كما ذكرنا بسبب الفعالية الأكبر لغاز (CS)، وسميته الأقل، وقدرته الأسرع، على تفريق المتظاهرين وجموع الشغب. وتكمن فعالية هذا الغاز في الأعراض الفسيولوجية التي تنتج عنه -وخصوصاً في المناطق الرطبة من الجسم- مثل السعال الشديد، وحرقة وتورم العينين، وسيلان دموع غزيرة، وسيلان مخاط من الأنف، وحرقة بالحلق، وضيق في التنفس، وتهيج واحمرار الجلد إذا ما كان مبللاً بالعرق. هذا بالإضافة إلى بعض الأعراض العصبية مثل التخبط والارتباك الذهني، وفقدان الإحساس بالاتجاه وبالمكان، والشعور بالدوخة. وتتفاقم حدة هذه الأعراض بشدة عند التعرض لهذا الغاز لفترات طويلة، أو عند استنشاقه في أماكن مغلقة، أو أثناء المجهود البدني كالجري مثلاً، وهو ربما ما يفسر أعراض وادعاءات متظاهري ميدان التحرير. ومن النادر أن يتسبب هذا الغاز في وفيات، حيث تقع الوفيات فقط في حالة ما إذا كان هنالك عامل يعيق التنفس بشكل طبيعي، كما هو الحال عند تدافع الجموع فوق بعضها البعض، أو عند الاعتقال البدني العنيف. وجدير بالذكر أن استخدام الغازات المسيلة للدموع ممنوع في أثناء الحروب والصراعات العسكرية، طبقاً لاتفاقية منع الأسلحة الكيميائية (Chemical Weapons Convention)، وهي الاتفاقية التي وقعت عليها جميع دول العالم تقريباً، باستثناء خمس دول هي مصر وسوريا، بالإضافة إلى كوريا الشمالية، وأنجولا، والصومال.