درج الناس في تاريخهم على البحث عما يحقق لهم الحدود الدنيا من التوافق بين مصالحهم الحيوية الأولية ومصالح السلطة الحاكمة، على الرغم من أن هذه الأخيرة لا تقف عند حد من سلّم الحكم، إذا غابت الضوابط القانونية الرادعة. نعني أنه لا توجد سلطة فاضلة بذاتها، فهي يمكن أن تكون كذلك، أي فاضلة، حين يقترن وجودها بوجود قوانين ضابطة وقادرة على الفعل، وقد بحث في ذلك مجموعات من الباحثين في التاريخ السياسي الثقافي من أمثال ابن خلدون وماركس وفوكو وغيرهم. تلك الحزمة من الأفكار تجد في المجتمعات العربية الراهنة حاضنة كبرى أو صغرى، وتبرز أهمية هذه الأفكار خصوصاً في المرحلة الراهنة، حيث نعيش على آمال قد يقود الكفاح من أجلها إلى تأسيس مدخل إلى تاريخ عربي حضاري جديد. فلقد تحولت السلطة أو السلطات العربية إلى ما اعتبر مسلمات قطعية، أخذت بها جموع واسعة من الشعوب العربية، فبعد تحقيق استقلالات عدة دول عربية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، بدأ الأمر من حيث هو انتقال إلى مرحلة التأسيس لمشاريع جديدة من التقدم الحضاري (الاقتصادي والسياسي والثقافي وغيره)، لكن ذلك لم يستمر طويلاً، خصوصاً أنه انتهى إلى مرحلة ما بعد التجربة التوحيدية المخفقة في سوريا. وفي سياق ذلك، راحت السياسة تُسحب من تلك البلدان العربية، خصوصاً ما دخل منها في "دائرة الممانعة" التي رفعت شعاراً لها تمثل في القول التالي: لا صوت يعلو على صوت المعركة، واتضح بعده وعلى مدار العقود الأربعة المنصرمة، أن ذلك الصوت لم يكن إلا صوت النظم المعنية، التي راحت تواجه شعوبها في الداخل: إفقاراً وإذلالاً واضطهاداً وشمل ما يتصل بحرية المواطن وكرامته وكفايته المادية، ومع استمرار تلك النظم والتمكين"الاستراتيجي الأبدي" لها من قِبل سادتها، ظهر الأمر وكأن هنالك عقداً بين هؤلاء قد عُقد مع كونهم "أصحاب السلطة الشرعيين الدائمين". وأتى الاستنباط التالي، ليكرس ذلك ويجعل منه بديهية، من يرفضها، فسوف يُدان بمثابته معادياً للوطن والاستقرار. سقوط تلك النظم يقود إلى نمط من الفوضى القاتلة واستقبلت المجتمعات العربية ذلك بالتأكيد على أن من يزعزع استقرارها، فهو كمن يسعى لاستجلاب الأجنبي إليها، وبسرعة فائقة، تحوّلت الأُمنية التالية إلى "كلمة السحر" في الحفاظ على الاستقرار وتلك هي: اللهم آمنا في أوطاننا. وقد تكرّست تلك الأُمنية وأكسبت شرعية سوسيونفسية ودينية، حين راحت جموع من الناس يرى فيها درءاً للاحتمالات الخطيرة، من نمط "الفتنة" وتصدع المجتمع، وأعلنت نظم سلطوية أن من يدعو إلى تنحي هذا النظام العربي الاستبدادي الاستقراري أو ذاك فهو في موقع من يؤجج فتنة، و"الفتنة أشد من القتل"، وهذا ما نعيشه الآن خصوصاً في الصيغة التي يسوقها رجال دين، يرون مصالحهم متماهية مع استمرار تلك النظم، ولذلك - هكذا مسك الختام - فإنه ينبغي التوصل إلى القول التالي: لا يجوز إقصاء الحاكم "الشرعي" حتى إذا كان ظالماً، لأن ذلك يقود إلى تجاوز الشرع، وينتج الفوضى والفتنة الطائفية مثلاً، ومن ثم وتحت قبضة ذلك "الخطاب الحاكمي" الملّفق يسعى رؤوس النظم العربية الاستبدادية إلى تفسير أي دعوة إلى الخروج على إرادة الحاكم المستبد، بكون الداعين إلى ذلك يمثلون طرفاً في "مؤامرة خارجية". إن الربط على هذا النحو إنما هو نمط من الغباء القاتل والمفعم بالفساد.