لا يقبل أيُّ نظامٍ عربي الاستفادة من التجربة المرة للأنظمة العربية الأُخرى؛ مع أنّ وجوه الشبه كثيرةٌ وفاقعة. فصحيحٌ أنّ المجتمعات تختلف بهذا القدْر أو ذاك، لكنّ كلَّ الدول العربية التي نشبت فيها ثوراتٌ هائلةٌ هي من الجمهوريات التي قادها عسكريون ثوريون أو شبه ثوريين. وقد أنشؤوا جميعاً أحزاباً حاكمةً أو ورثوها وعدَّلوا فيها. كما دأَبوا على التمديد والتجديد لأنفُسِهِم، وخلال هذا وذاك تطور أسلوبهم السلطوي فاعتمدوا على أجهزة الأمن والاستخبارات في ضبط الداخل وإخضاعه، ونشروا أقاربهم وطوائفهم أو أتباعهم في كتائب الجيش، واعتبروا الحزب الحاكم ديكوراً لإبقاء صِلةٍ مع الناس من نوعٍ ما. ويستطيع الباحثون المدقِّقون بالطبع أن يلاحظوا في هذه النقطة أو تلك، فروقاً بين سوريا واليمن أو مصر وليبيا. بل يستطيعون أن يشكّكوا في الشبه، وبالتالي في المصائر عندما يوردون جماهيرية القذافي مَثَلاً على ما يقصدونه. بيد أنّ استثناءات القذّافي تؤكّد القاعدة. إنما لو تأمَّلْناها عن كثبٍ لوجدْنا أنّ الفروق ليست كبيرة. بدليل أنَّ الجيش الذي يذكرونه باعتباره فارقاً بين حكم القذافي وغيره، غَصَّ أيضاً بأَولاد القذافي، مثلما صنع صالح وبشّار. إنما الملحوظ أنّ انتهاكات المصري والتونسي انصبّت في نطاق أجهزة الأمن، بينما تركا بنية الجيش سليمةً وفاعلةً بشكلٍ عام. لكن هل أثَّر هذا التشابُهُ في الأصول والمسار، في المصائر التي صارت إليها تلك الأنظمة؟ هذا الأمر واضحٌ تماماً، فقد خرج من السلطة بالقوة في عام 2011 أربعة رؤساء عرب من أهل الجمهوريات الخالدة. فبن علي لجأ للسعودية عندما تخلَّى عنه الجيش، ومبارك تخلَّى عن السلطة بقوة الجيش، لكنه رفض مُغادرة البلاد وهو الآن قيد المحاكمة. والزعيم الليبي قُتل كما قُتل عددٌ من أَولاده وتشردت أُسرتُه. وتميز الرئيس اليمني القابع في السلطة منذ عام 1979 بالصمود عشرة أشهُرٍ حتّى وقّع أخيراً وثيقةً مع المعارضة لنقل السلطة بإشراف نائبه. وليس من المعروف بعد أن كان هو أو نائبه قادرَين على ضمان تنفيذ الاتفاق المذكور، وبخاصةٍ أنّ المتظاهرين بصنعاء وتعز ما قبلوا الاتفاق على عِلاّته. كما أنّ الحوثيين المنشقّين بأقاصي الشمال كانت لهم اعتراضاتٌ عِدَّة. الذي قصدْتُهُ من وراء هذا الاستعراض الوصول إلى إمكان التنبؤ بالمسار الذي تتخذه الأزمة السورية. فقد قيل عشرات المرات إنّ الحالة السورية متميزةٌ من عدة وجوه. وأولُ تلك الوجوه الوضع الجغرافي والجيوسياسي على المتوسط وعلى الحدود مع إسرائيل وعلى الحدود مع العراق ولبنان، بحيث تتلقى حصانةً سلبيةً من"ضرورات" الاستقرار على حدود فلسطين المحتلة، كما تتلقّى حصانةً إيجابيةً من الدعم الذي تلقاه من أتباع إيران في العراق ولبنان. ثم إنّ النظام في سوريا مُركَّبٌ وليس بسيطاً. ولا يأتي التركيب من أنّ "البنية العميقة" للنظام طائفية وحسْب؛ بل ومن أنّ "شرعية" النظام واستمراره لا يقومان على الطائفة والأمن أو عناصر داخلية أُخرى، بل وعلى الموقع والوظائف والتكليفات. فقد تلقّى النظام تكليفاتٍ منذ السبعينيات تُجاه العراق والفلسطينيين وتُجاه لبنان، كما تلقّى التزاماتٍ تُجاه إسرائيل. لذلك ما وجد صعوبةً في التحول من التحالف مع الاتحاد السوفييتي إلى الصيرورة ضرروةً لسياسات الولايات المتحدة، وللتوازُنات داخل المعسكر العربي. والذين يؤكدون على التميز والتمايُز في موقع النظام السوري وتركيبته وأسباب شرعيته؛ يعودون فيذكرون أنّ السنوات العشر الأخيرة -بعد وفاة حافظ الأسد- شهدت تخلْخُلاً في هذه الترتيبات والتركيبات. ومن ذلك أنّ النظام شهد تمردات صريحة عليه في فلسطين ولبنان. كما أنّ خاصرتيه التركية والأردنية تحولتا عبئاً عليه في الشهور الأخيرة. وقد حسب النظامُ أنّ علاقاته الخاصة بإيران منذ ثلاثين عاماً تشكّل عاملاً إضافياً في قوته واستمراره، وكذلك الشأن مع مسألة الأقليات التي كان هناك تواطؤٌ بينه وبين الغربيين على اعتباره حامياً لها. والذي حصل أنّ علاقته الوثيقة بإيران أورثته -إلى جانب الميزات- مشكلاتٍ هي في الأصل مشكلاتٌ لإيران مع الولايات المتحدة والسعودية والخليج، وفي العراق. ومع فقد التكليفات من جانب الولايات المتحدة بالتدريج، والاتجاه لمواجهة سياساتها بالعراق ولبنان؛ فإنّ النظام السوري اتجه للاعتماد أكثر على إيران، أو أُرغم على القيام بخدماتٍ لها بلبنان وفلسطين، ما كان مضطراً إليها لو كان أكثر استقلالية، أو لو كانت علاقاته بالولايات المتحدة والسعودية لا تزال على ما يُرام. وهكذا فهناك معالم معينة للحالة الحاضرة للنظام السوري: أنّ الأعراض التي حصلت في البلاد العربية الأُخرى (حركات الشباب الزاخرة)، هي ذاتُها تحصل عنده، وهو يواجهها بعنفٍ هائلٍ ما مارسته الأنظمة الأُخرى التي واجهت وضعاً مشابهاً، وأنّ الغربيين ما عادوا يرون فائدةً في بقائه. إنما من ناحيةٍ أُخرى لا يبدو أنّ الروس والإيرانيين سوف يتخلَّون عنه قريباً، للفوائد الاستراتيجية التي يحصلون عليها. كما أنّ الغربيين يخشَون إذا زال أخطاراً على الاستقرار على حدود إسرائيل، وأخطاراً على الأقليات. ولذا فقد كانت الفكرة من وراء استحسان المبادرة العربية، الوصول مع النظام السوري إلى حالةٍ تُشبه ما حصل مع الرئيس اليمني: السقوط بالتدريج، وخلال ذلك تجري تقويةُ المعارضة، ودفْع أهل الصفين الثاني والثالث بالنظام إلى التفاوُض معها، من أجل تحولٍ سلميٍّ بضماناتٍ متبادلة ومشتركة. وبذلك يكتمل حصول التحول خلال عامٍ ونصف أو عامين. وشرطُ ذلك كلّه وقْف العنف الآن ضد المتظاهرين. فهل هناك حظوظٌ لنجاح هذه الخطة أو هذه الأفكار؟ ما قبل النظام حتى الآن فكرة المراقبين التي كان المراد منها إيقاف العنف، بحيث يدور دولابُ العملية السالفة الذكر. لذلك فالمرجَّح أن يصل الأمر خلال أيامٍ قليلةٍ إلى العقوبات الاقتصادية والسياسية من جانب العرب، بعد عقوبات الأوروبيين والأميركيين. وسيظلُّ النظامُ مستطيعاً التنفُّس من ناحيتي العراق ولبنان. لكنّ العقوبات القاسية هذه قد تدفعُهُ إلى وقف العنف وقبول التفاوُض على التحول، كما فعل صالح مؤخَّراً. هل يشبه النظام السوري الأنظمة العربية الأُخرى؟ إنه يشْبهُها بالطبع، كما يشبهُها في وقوف الثورة الديموغرافية ضدَّه. إنما الاختلاف في الوضع الاستراتيجي، والذي أفاده حتى الآن، لكنه يصبح ضدَّه بالتدريج. فالمنطق الآن لدى الخصوم والأصدقاء: ما عاد بقاءُ النظام السوري ممكناً، لكن أين البديلُ المقُنِع الذي يَخْلُفُه، وكم تستغرق عمليةُ شرعنة ذلك البديل الذي بدأ يبرز (المجلس الوطني)، وإقداره؟ هذه هي المسألة.