أتوقف أحياناً عند المسابقات التي تجريها بعض الجهات أو أشخاص معينين من تحضير أكبر قرص "بيتزا"، إلى صنع أضخم صينية كنافة، أو طبخ أكبر صحن كبسة، من أجل الدخول في موسوعة جينس لتحطيم الأرقام القياسيّة. حقيقة أرى بأن هوس البعض للفوز وكتابة اسمه في قائمة جينس، ما هو إلا نوع من التصرّف غير العقلاني! وقد حضرت هذه المنافسات في ذهني، وأنا أطالع مقالاً جميل المضمون كنتُ قد قرأته مؤخراً يحمل عنوان (درس من ألمانيا)، يتحدّثُ فيه صاحبه عن واقعة جرت له عندما قدِمَ إلى ألمانيا للدراسة فيها. يقول في مقالته إن أصحابه لحظة وصوله اصطحبوه إلى مطعم بمدينة هامبورج الألمانية للترحيب به، وطلبوا طعاماً كثيراً لإحساسهم يومها بالجوع الشديد، معترفاً بأنهم خلّفوا ثلث الطعام في الأطباق عندما هبّوا لمغادرة مكانهم. وقد لاحظوا أن السيدات العجائز اللواتي كنَّ جالسات على الطاولة بجوارهن قد أظهرن استياءهن لكل هذا الكم المتبقي من الطعام. إحداهن قامت من مكانها وأبدت امتعاضها من تصرفنا، وردّ عليها صديقي بأن لا يتدخلّن فيما لا يعنيهن ما دمنا قد قمنا بدفع ثمن الطعام الذي طلبناه كاملاً. انزعجت العجوز من الرد ورفعت سمّاعة الهاتف وطلبت رقماً معيناً، وفي خلال دقائق وصل رجل عرّف نفسه أنه ضابط من سلسلة التأمينات الاجتماعية، وأصرّ على تحرير مخالفة لنا بقيمة خمسين ماركاً، قائلاً لنا بلهجة حازمة: أطلبوا كمية الطعام التي يُمكنكم استهلاكها.. المال لك لكن الموارد للمجتمع.. ليس لديك سبب لهدر الموارد". يُتابع في مقالته بأنهم خجلوا من أنفسهم، وقام صاحبه بتصوير تذكرة المخالفة، وأعطى لكل واحد منهم نسخة منها كهدية تذكاريّة، قاموا بتعليقها على الحائط داخل منازلهم لتذكرهم بألا يُسرفوا أبداً". للأسف ثقافتنا العربية تقوم على التفريط في حب الذات والخروج من دائرة النزاهة! وتقوم على مبدأ الفهلوة والشطارة والإيمان المطلق بمقولة "وأنا مالي!" دون اعتبار لمصالح الآخرين؟! تعودنا أن نُفكّر طوال الوقت في أنفسنا وفي أسرنا ثم يأتي المجتمع الذي نعيش فيه بذيل اهتماماتنا، وهو ما أوقعنا مع مرور الوقت في الكثير من المنزلقات والأخطار! نجد هذه المشاهد المخزية في المسؤول الذي ما أن يُدير مؤسسة أو يتولّى وزارة حتّى يعصر تفكيره في كيفية تأمين مستقبل أسرته بالنهب وسرقة المال العام دون أن يُراعي مستقبل الأجيال القادمة! نجدها في تمسّك الأغلبية بعبارة "هل سأصلح بمفردي الكون"! وهو ما جعلنا ندور في حلقة التخلّف ونسقط في مستنقعات الفساد! ثقافة الانغماس بجديّة في بناء أوطان نقيّة لا يتقنها إلا قلّة من البشر، وهؤلاء للأسف ينظر إليهم عامة الناس على أنهم أشخاص شاذون في سلوكهم كونهم يسيرون على الصراط المستقيم، ويسبحون عكس التيار، ويُقاومون أمواجاً عالية تدفع بهم إلى شواطئ مهجورة لا تصلح للعيش الآدمي! المثير للاستغراب أن أحدنا ما أن يلمس بقدميه أرض الغرب حتّى يتعلّم الانضباط والشفافية، كأننا نحتاج إلى عيون حمراء تغرز نظراتها في وجوهنا لكي نُتقن سلوكيات الصواب! وكم أتمنى أن تنشأ مجتمعاتنا على معايير حقوقية جادة لنُصبح مجتمعات متحضرة دون أن نضطر إلى القفز فوق حدود أوطاننا! لماذا لا نتعلم الغيرة على أرضنا ونحن نشرب من مائها ونتدثر بسمائها ونتنفس هواءها؟! هل يجب أن نكتوي بنار الغربة حتّى نُدرك أن أوطاننا لها علينا حقوقاً يجب أن نصونها ونُحارب من أجلها؟! هل يجب أن يلقننا الغرب دروساً يوميّة في وجوب الاستماع لصوت ضمائرنا حتّى نحس بآلام البشرية؟!