نقول بالخليجية الدارجة في وصف من يلجأ إلى الشيء ونقيضه في محاولة لجبر خواطر الكل ونيل رضاهم أن "فلاناً أعطانا الحار والبارد"! هذا الكلام ينطبق على تقرير اللجنة البحرينية المستقلة لتقصي الحقائق حول الأحداث المؤسفة التي وقعت في مملكة البحرين في شهري فبراير ومارس من هذا العام الآفل سريعاً بإذن الله إلى زوايا النسيان. تلك اللجنة التي ترأسها البروفسور "شريف بسيوني" والتي عــُد تشكيلها حدثاً غير مسبوق في تاريخ العرب على اعتبارها أنها جاءت طواعية من دون ضغوط خارجية، فضلاً عن منحها استقلالية تامة وصلاحيات كاملة للبحث، والتحري، والإطلاع على كل شيء، ومقابلة من تشاء. لذا لم يكن مستغرباً أن يـطلق البعض من أمثال الشيخ الجليل المحب لوطنه وقيادته "محسن العصفور" على اللجنة المذكورة "لجنة بس عيوني" بدلا من الاسم المتداول وهو "لجنة بسيوني"، كناية عن أن رئيسها لم ينظر إلى الأمور والوقائع إلا من خلال عيونه وحده دون عيون طائفة كبيرة من مكونات الشعب البحريني ممن تضرروا واستبيحت حرماتهم وممتلكاتهم على مدى أشهر وأسابيع طويلة من الرعب والتأزيم وقطع الطرقات والتحرش اللفظي والجسدي. ولأن البروفسور بسيوني عربي وإن كان يحمل جنسية غير عربية – فقد أفاض في تقريره المذكور حول النتائج دون التوقف عند الأسباب. وهذه لعمري عادة عربية بامتياز سواء كان صاحبها بروفسوراً ذا صدقية وخبرة عالمية، أو كان إنساناً بسيطاً من عامة الناس. صحيح أن التقرير وجه أصابع الاتهام إلى أجهزة رسمية بعينها متهماً إياها باستخدام العنف المفرط، والتعذيب الجسدي والنفسي، والفصل التعسفي من العمل، وانتهاك حرمات المنازل وغيرها، لكنه فشل في تسمية الأسباب التي دعت تلك الأجهزة إلى القيام بتلك الأعمال التي يجب قبل إدانتها بيان أسبابها. إذ لو لم تلجأ المعارضة الطائفية، المرخصة وغير المرخصة، ومن يسير في ركابها من الجمعيات السياسية والمنظمات الأهلية التي غيرت في لحظة غرور وجهها التقدمي، وتخلت عن تاريخها النضالي المعروف، ودفنت مبادئها القومية واليسارية، بمقدار مائة وثمانين درجة، إلى استخدام العنف، والتحشيد والتحريض ضد النظام ورموزه، وضرب مقومات الوطن ومصالحه الاقتصادية، ونشر الرعب بين المواطنين الآمنين والوافدين المسالمين، لما كان هناك استخدام للقوة أو إفراط في استخدامها لتفريق المظاهرات وأعمال الشغب والاعتداء. فالبحرين، كما يعرف الجميع، كانت تعيش حالة من الأمن والأمان والاستقرار والوئام الوطني، إلى أن خـُيــّل لبعض القوى أنها قادرة على استنساخ التجربتين التونسية والمصرية، وبالتالي إسقاط النظام في البحرين، واستبداله بالنموذج القائم في الدولة القابعة على الضفة الشرقية للخليج. وإستطراداً، نقول إن "تقرير بسيوني" لم يشر، لا من قريب أو بعيد، إلى الحق المشروع لأي حكومة مسؤولة في الحفاظ على السلم الأهلي ومنع الوطن من الانزلاق إلى هاوية العنف والتخريب والاقتتال الطائفي، وهو حق مارسته الديمقراطيتان العتيدتان البريطانية والأميركية مؤخراً في لندن ونيويورك دون أن توجه لهما كلمة انتقاد، ولو على استحياء. وصحيح أن التقرير استفاض في أحد فصوله الرئيسية في سرد الأحداث التي عصفت بالبحرين بأسلوب كرونولوجي، وبيّن بالتفصيل ما حدث في الطرقات والميادين والأحياء والمدارس والجامعات والوزارات الرسمية، ناهيك عما حدث في مجمع السلمانية الطبي من انتهاكات وجرائم، لكنه تحاشى توجيه أصابع الاتهام بالاسم لمن خطط ونفذ وأدار تلك الأعمال. وهذا الاسم لئن تجاهل بسيوني ذكره، فإنه معروف لدى كل من يعيش على أرض البحرين المباركة، مواطنين ووافدين. ثم أن التقرير، مع احترامنا لمن كتبه، يفيض بالتكرار الممل في أكثر من موقع لحكاية "المرفأ المالي" وشراء أرضه بمبلغ دينار واحد. فبدا بذلك كمن يتبنى خطاب المعارضة الطائفية التي اتخذت من هذا الملف دليلاً على فساد الحكومة، وعبأت رؤوس الصبية والمراهقين بفكرته كوسيلة لحشدهم من أجل قطع الشريان المالي والإقتصادي الأكبر في البلاد. لقد أراد بسيوني أن يكون معتدلًا ومتوازناً فأدرج في تقريره أنه لم يثبت وجود أصابع للدولة القابعة على الساحل الشرقي للخليج في أحداث البحرين، وأكمله بالقول إنه لم يثبت تدخل قوات "درع الجزيرة" في المواجهات الأمنية في البلاد، فساوى بذلك ما بين دولة أجنبية لا يكف رموزها عن إطلاق التهديدات جهاراً نهاراً ضد البحرين، ولا تكف فضائياتها عن النيل من استقرار البحرين وتشويه سمعة نظامها، ولا تكف عن تكليف أذرعتها في لبنان والعراق والكويت لحشد الدعم والتأييد المادي والمعنوي والإعلامي لجمعيات المعارضة البحرينية (وهو ما أشار إليه عـَرضاً جلالة الملك حمد في نطقه السامي بُـعيد تسلمه لـلتقرير)، وبين قوة لم تدخل البحرين إلا بناء على طلب نظامها الشرعي وبموجب اتفاقات أمنية ودفاعية ضمن إطار مجلس التعاون الخليجي. ونختتم بالقول إن التقرير الصادر عن اللجنة المذكورة آنفاً في صيغته العربية مليء بالأخطاء النحوية واللغوية، وكأنما كــُتب على عجل ودون تمحيص وتدقيق، فمنطقة الحورة بالمنامة كـُتبت "هورا"، ومنطقة العدلية كـُتبت "عادلية"، ومنطقة عالي كـُتبت "أعالي"، وغير ذلك مما لا تسمح هذه المساحة المحدودة بسردها. ولم تقتصر الأخطاء على أسماء العلم، وإنما تعدتها إلى مفردات عربية، لا يخطىء في كتابتها أطفال الصفوف الابتدائية، مثل مفردة "ممارسة" التي كتبت مراراً وتكراراً "مومارسة". وباعتبار هذا التقرير وثيقة تؤرخ لمنعطف حاد في تاريخ البحرين المعاصر، مثله مثل التقرير الأممي الذي كتبه في عام 1970 مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة لتقصي الحقائق حول مرئيات الشعب البحريني حيال المستقبل السياسي لبلادهم السنيور "وينسبير جيوشياردي"، والذي خلا تماماً من الأخطاء اللغوية في نسخته العربية، رغم جنسية "جيوشياردي" الإيطالية، فإنه من الضروري تنقيح التقرير قبل وضعه في المكتبات أو توزيعه، كي لا تختلط الأمور على الأجيال القادمة على نحو ما إختلطت الأمور عند جيل الشباب الحالي الذي لم يقرأ نص تقرير "جيوشياردي"، فبات لا يعرف أن كل مكونات وطنه الصغير ذهب متراصا ذات يوم من صيف 1970 للقاء المبعوث الأممي من أجل إيصال رسالة واحدة وواضحة إليه مفادها "نعم لبحرين عربية خليفية مستقلة، ولا لبحرين تابعة للجارة الطامعة".