في ختام أول مؤتمر علني لها داخل الأراضي الليبية، أعلنت حركة الإخوان المسلمين هناك انتخاب الجماعة "بشير الكبتي" مسؤولاً عاماً لها، وفق ما أعلن سلفه "سليمان عبدالقادر" في مؤتمر صحفي، وتم التجديد كذلك لمجلس شورى الجماعة، وأوضح عبدالقادر أنه بخلاف الإسلاميين في تونس ومصر، فإن الإخوان الليبيين لا ينوون حتى الآن تأسيس حزب، لكنهم يدعون أعضاءهم إلى المشاركة في الحياة السياسية. وكانت قد انطلقت قبل ذلك بأيام في مدينة بنغازي أعمال المؤتمر التاسع لجماعة الإخوان المسلمين في ليبيا، للمرة الأولى منذ إطاحة نظام القذافي. وصرح مصدر مقرب من الجماعة أنه سيتم كذلك إقرار التوجهات العامة التي سوف تحكم حركة الجماعة في المرحلة المقبلة. وأشار المصدر إلى أن أعضاء من المجلس الوطني الانتقالي الليبي والمكتب التنفيذي و "جمعاً غفيراً من الساسة والمثقفين ورجال الأعمال الليبيين"، بالإضافة إلى العديد من وسائل الإعلام المحلية والدولية، حضروا فعاليات الجلسة الأولى. ويشار إلى أن المؤتمر الأول لـ "الإخوان" انعقد داخل ليبيا سراً في عام 1992، فيما انعقدت بقية المؤتمرات علناً في دول المهجر. في دراسته الموجزة عن "الحركات الإسلامية الحديثة في ليبيا"، كما هو عنوان الكتيب الصادر في لندن عام 2010، يعرض الباحث "محمود محمد الناكوع"، وهو ليبي من مواليد مدينة الزنتان غربي ليبيا، حيث اعتقل مؤخراً نجل القذافي "سيف الإسلام"، أقول يعرض "الناكوع" بشكل مختصر تاريخ أبرز الحركات الدينية هناك، ويقول إن تاريخ حركة "الإخوان المسلمون" العقد الرابع من القرن العشرين، بعد أن وصلت الحركة إلى ليبيا بخطوة درامية مثيرة! فمن أهم أسباب وصول فكر "الإخوان" إلى ليبيا، وخاصة إلى مدينة بنغازي، هروب ثلاثة من الشبان المصريين، وهم من جماعة "الإخوان" من مصر ودخولهم إلى ليبيا. وكان هروبهم بسبب الاتهامات التي وجهت لعدد من الإخوان في حادث اغتيال محمد فهمي النقراشي (1888 - 1948) رئيس الحكومة المصرية. ولنا هنا ملاحظة عابرة، فالمؤلف يذكر عام 1949 بدلاً من عام 1948، السنة التي اغتيل فيها رئيس الوزراء المصري على يد أحد الإخوان، طالب الطب البيطري "عبدالمجيد أحمد حسن" 23 سنة، عضو الحركة منذ عام 1944. وقد وقع الاغتيال كما هو معروف يوم 28 ديسمبر في نهاية تلك السنة، 1948، أثناء دخول النقراشي وزارة الداخلية. ويقول "الناكوع" إن المفوض البريطاني في برقة "دي كاندول" يصف في كتابه "الملك إدريس عاهل ليبيا" لجوء هؤلاء الثلاثة إلى ليبيا فيقول: ذات يوم في أوائل يوليو عام 1949، بينما كنت في إحدى زياراتي المعتادة للأمير إدريس، أخبرني بأنه في مساء اليوم السابق سمع طرقاً على النافذة، فلما استوضح جلبة الأمر وجد ثلاثة شبان غرباء يطلبون مقابلته بصورة ملحة، وحين دخلوا عليه قالوا إنهم لاجئون من مصر بعد أن اتُهموا زوراً بالاشتراك في جريمة اغتيال "النقراشي باشا". وقد استجاروا بالأمير متوسلين إليه باسم الواجب الإسلامي، فلم يجد بداً من إجابة مطلبهم، وأمر بإسكانهم في "قصر المنار"، وهو قصر الأمير. وقلت للأمير صراحة إن هذا التصرف يضعني في موقف حرج، إذ إنني ما زلت مسؤولاً عن الأمن العام والعلاقات الخارجية، فأصر على أنه لا يملك إلا أن يجير من يلجأ إلى حماه. وحين رجعت إلى بنغازي، يُكمل المفوض البريطاني- علمت أن اثنين من كبار ضباط الشرطة المصرية قد وصلا من القاهرة جواً في مطاردة الرجال الثلاثة، بعدما تم اقتفاء آثارهم الى حدود برقة، وأنهما توجها إلى إدارة الشرطة للبحث عن المطلوبين. وكان من الغريب أننا لم نتلق أي معلومات عن الموضوع من القنصلية المصرية في بنغازي، وبالتالي لم يكن بوسعي أن أفعل شيئاً أكثر من رفع تقرير الى الحكومة البريطانية، وبطبيعة الحال، أخفقت عملية البحث عن الأشخاص الثلاثة، فعاد الشرطيان المصريان إلى القاهرة بخفي حنين، وسرعان ما جاء الرد المصري على تصرف الأمير. ففي اليوم التالي مباشرة أغلقت الحدود المصرية مع "برقة"، كما أُلقي القبض على اثنين من الشخصيات البرقاوية كانا يزوران مصر، وبعد ذلك طلبت الحكومة المصرية من حكومة بريطانيا تسليم الفارين رسمياً، فلم أجد رداً مناسباً غير الإشارة الى فروض الإسلام، تاركاً للسفارة البريطانية أن تجادل السلطات المصرية كما تشاء (ص 23 - 25). وبعد فترة سمح الملك لهم بالخروج من القصر للعمل والنشاط العام. فعمل أحدهم في مجال التعليم، وعمل آخر مع عبدالله عابد السنوسي الذي كان يعمل بالتجارة. واستطاع ثالثهم، يقول الناكوع، بالاعتماد على التدريس في المدارس الليلية، ومن خلال العلاقات التي أقامها مع الناس، أن يعطي صورة جيدة عن الإخوان ودعوتهم، فترك أثراً ملموساً، واستقطبت الجماعة عدداً من الشباب. ومما ساعد على هذا التنامي في الجماعة بعض المدرسين الإخوان المصريين الذين زادوا تعريف الناس بها. وهذا ما تؤكده مجلة "المجتمع" الكويتية كذلك، في العدد 1054 يقول الناكوع تقول المجلة: "وحركة الإخوان بدأت في ليبيا في أواخر أربعينيات القرن العشرين على أيدي مجموعة من المدرسين المصريين المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين، وكذلك بعض الإخوان الذين لجأوا الى ليبيا. وفي طرابلس وبقية المدن بالولاية كان للمدرسين المصريين الدور البارز في نشر الحركة، حيث وصل من مصر إلى ليبيا مع أوائل العقد الخامس من القرن العشرين، عدد كبير من المدرسين المتعاطفين مع الإخوان أو المنتمين إلى الجماعة، كما رجع الى البلاد عدد من الليبيين الذين درسوا في مصر، أو كانوا مهاجرين في مصر ممن تأثروا بدعوة الإخوان، بل وشارك بعضهم مع الإخوان في حرب فلسطين عام 1948. كانت ساحات التعليم مفتوحة أمامهم جميعاً، كما في الكويت والبلدان الخليجية في المرحلة نفسها، وكانت عقول الطلبة مهيأة للتأثر بالدعوات والأفكار الجديدة، أي أن ليبيا، كما يقول المؤلف، كانت "تربة خصبة لمن يرغب أن يزرع زرعاً مثمراً". يضاف الى هؤلاء، وبسبب ذلك الصدام الدامي بين الإخوان في مصر وثورة يوليو 1952، جاء إلى ليبيا في العهد الملكي عدد من الشخصيات "الإخوانية ". وعندما اشتد القمع في مصر، "كانت ليبيا ما تزال تستقبل الكثير من المدرسين المصريين للعمل في مدارسها ومعاهدها، ومنهم من يحملون دعوة الإخوان، دون الجهر بانتمائهم إلا لمن يثقون به ثقة كاملة". ورغم أن المنتمين إلى تيار الإخوان من الليبيين تجاوز خلال هذه المرحلة المئات رغم حظر الانتماء للأحزاب آنذاك فإن تأسيس الجماعة سياسياً لم يكن قد بدأ. وكان على الإخوان في ليبيا، خلال هذه المرحلة، التعايش مع "الهجمات الكلامية التي يقوم بها التيار الناصري هناك ضد الإخوان بصورة عامة، وهو التيار الأوسع شعبية لما كان من حضور وتأثير لخطب عبدالناصر وإذاعاته وصحافته". هكذا ظهرت حركة الإخوان المسلمين الليبية في النفوس، قبل أن تعلن قيامها النصوص... كما سنرى.