على كثرة الكتب التي صدرت في بحر هذا العام حول ما بات يسمى الربيع العربي، أو الثورات العربية، إلا أن أقل القليل منها هو ما تجاوز الطابع الاحتفالي أو التجميع الإعلامي لـ"فتافيت" صورة ما عاينه المراسلون أو المراقبون في هذه الدولة أو تلك من دول الربيع الخمس. وضمن ذلك القليل من الكتب الذي قدم مقاربة شمولية لخلفيات وأسباب هذه الثورات يأتي كتاب "النهضات العربية... 7 أسئلة- مفاتيح حول الثورات الجارية" لمؤلفيه ميخائيل بشير العياري، وفينسان جيسير، الذي صدر مؤخراً، وفيه يسعيان لتحليل أحداث هذه الثورات، وربط الأسباب فيها بالتداعيات، والنتائج بالمقدمات، وصولاً إلى استشراف الآفاق المستقبلية المتوقع أن تؤدي إليها أطوار التحولات الجارية اليوم في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا. ولعل مما زاد من قيمة وعمق هذا الكتاب أن مؤلفيه متخصصان في شؤون المنطقة العربية وقد ألفا كتباً ودراسات رصينة عنها، أصبح بعضها يعتبر من المؤلفات الكلاسيكية القيمة في مجاله. وفي البداية يعتبر الكاتبان أن ما جرى ويجري في العالم العربي خلال هذا العام يعتبر، بكل المقاييس، حدثاً فارقاً في تاريخ العالم المعاصر، حيث دخلت منطقتا المغرب والمشرق العربيتين في حالة تحول واسعة فاجأت أكثر المراقبين التصاقاً بالمشهد العربي واطلاعاً على أدق تفاصيله تماماً مثلما أخذت على حين غرة نظم الدول المعنية نفسها. وقد أثار الطابع المفاجئ لنشوب هذا الربيع العربي، وزخم وحجم التحولات الناجمة عنه، التي انتهت حتى الآن بإسقاط أربعة نظم، حزمة واسعة من الأسئلة لدى الساسة والباحثين هي ما يسعى هذا الكتاب للإجابة على بعضها في ضوء وقائع سجلت ومؤشرات لوحظت، قبل وبعد إحراق البوعزيزي لنفسه، إن صح اعتبار تلك الواقعة الفردية الخاصة بداية لهذا التحول الإقليمي العام. ومن ضمن الأسئلة التي يطرحها المؤلفان ما يلي: -هل هي ثورات بورجوازية أم شعبية؟ وفي سياق محاولة الإجابة على هذا السؤال يثير الكاتبان سؤالين فرعيين، مستخدمين جهاز تحليل مفهومي ماركسي، مستفهمين: إن كان من الوارد اعتبار التحولات العربية الراهنة ثورات بروليتارية تهدف إلى قلب كل النظام القائم في أبعاده الاجتماعية والاقتصادية، وطبعاً السياسية؟ أم أن الأمر هو مجرد تشوق من طبقة جديدة للاستحواذ على السلطة بعد قلب نظام الطبقة السائدة السابقة؟ وفي الإجابة يقولان إنه لا هذا ولا ذاك، إذ إن ما يجري اليوم في دول الربيع العربي هو حركة اجتماعية واسعة تستقطب جميع الطبقات الاجتماعية، ولا تتميز بأي طابع فئوي أو طائفي. وبدلاً من أن يكون هدف ثوار الربيع العربي هو قلب نظام إنتاج اقتصادي عتيق والإتيان بنظام آخر بديل، مثلما جرى في الثورات الاشتراكية مثلاً، فإن قصارى ما يطمحون إليه هو فقط إصلاح بعض اختلالات النظام الرأسمالي المتبع، الذي تحول لدى بعض النظم السابقة إلى منهج وطريق للفشل والاستبداد والفساد. -هل هي حقاً ثورات فيسبوك؟ في الإجابة على هذا السؤال أيضاً يسعى المؤلفان لتفكيك أسطورة راجت كثيراً في سياق تفسير فاعلية احتجاجات الربيع العربي، مؤكدين أن شبكات التواصل الاجتماعي كالفيسبوك والتويتر والتقنيات الجديدة بصفة عامة، إن كانت ساهمت في تحفيز وتفعيل آليات تحرك الشباب المحتج في بلدان الربيع العربي فإنه لا يمكن اعتبار نجاح تحول سياسي بهذا الحجم مجرد نتيجة لما تتيحه مواقع التواصل الاجتماعي من إمكانات تعبئة وحشد. هذا زيادة على أن هذه الإمكانات كانت متاحة أيضاً لمؤيدي النظم السابقة ولما بات يسمى قوى الثورة المضادة، ومفهومٌ أن فاعليتها لو كانت بهذه الدرجة في تعبئة الشارع لكانت تلك النظم أول المتجهين للاستنجاد بقدراتها التعبوية الخارقة. -هل كانت ثورات "برتقالية"؟ بمعنى كون الولايات المتحدة هي مصدر إلهامها، على نحو ما جرى في بعض دول المعسكر الاشتراكي السابق عند سقوط النظم الشيوعية! لاشك أن أكثر من رددوا هذا السؤال الأخير وسعوا لتسويقه هم أنصار "نظرية المؤامرة" -يقول الكاتبان- وأنصار هذه النظرية ليسوا فقط في المنطقة العربية بل إن هنالك بعض المفكرين وبيوت الخبرة في الغرب ممن أثار احتمال السيناريو الأميركي هذا -خذ مثلاً شبكة فولتير الشهيرة- ووفق هذا السيناريو فإن ثورات الربيع العربي ما هي إلا مخطط أميركي مطبوخ على نار هادئة منذ زمن بعيد لتغيير شكل المنطقة. ويعتبر الكاتبان أن هذا التفسير من فرط سذاجته وقصوره الإدراكي لا يستحق حتى التفنيد، لأن من البديهي أن ما جرى في بعض دول الربيع العربي أدى إلى فقدان واشنطن بعض أهم حلفائها في المنطقة. -ما مستوى حضور النساء في هذه الثورات؟ هنا أيضاً يكسر الكتاب، مرة أخرى، تلك الصورة النمطية الشائعة في المخيال الغربي عن المرأة العربية باعتبارها غائبة أو مغيبة عن التأثير في الشأن العام في بلادها، مبرزاً الدور الحيوي الذي لعبته الشابات العربيات إلى جانب أشقائهن الشباب في إنجاح ثورات الربيع العربي. - وأخيراً، وليس آخراً، هل هي ثورات علمانية أم دينية؟ لاشك أن هذا السؤال هو أكثر ما أثار النقاش في صفوف المراقبين الغربيين، المتوجسين من تنامي حضور الجماعات الأصولية في المنطقة، ولئن كان الكاتبان يستبعدان خطر جنوح التحولات الراهنة لتتكشف عن فضاء إقليمي أصولي إلا أنهما يعتبران مع ذلك أن دواعي التوجس والحذر بهذا الصدد تبقى قائمة على كل حال. والشيء المؤكد الوحيد، في نظرهما، بعيداً عن أية رؤى رومانسية أو احتفالية بالثورات العربية، هو أن شكل المنطقة قد تغير، ولن يعود أبداً على ما كان عليه قبل إشعال البوعزيزي لشرارة الثورات قبل عام من الآن تقريباً. حسن ولد المختار الكتاب: النهضات العربية.. 7 أسئلة مفاتيح حول الثورات الجارية المؤلفان: ميخائيل بشير العياري وفينسان جيسير الناشر: آتلييه تاريخ النشر: 2011