عالم الاستبداد أعمق مما قد يبدو على السطح، فهو خاضع لمنطق ما خفي كان أعظم وهذا الأمر ملحوظ عند سقوط أحد المستبدين في أي العوالم من حولنا ما عدا المتقدم منه. عندما يقوم الإعلام الإلكتروني قبل الوسائل الأخرى بعد سقوط بعض رؤوس الأنظمة الديكتاتورية في دول الربيع العربي ومن قبل في العالم السوفييتي والعالم اللاتيني وغيرها من العوالم المجتمعة حول الاستبداد كعامل مشترك دون إضافة عوامل الفساد الأخرى إليها، بكشف الغطاء عن الأفعال الشنيعة ليس في شذوذها فقط بل في الإبداع والابتكار والأساليب التي قد لا تخطر على بال أحد من الأسوياء من عقلاء المجانين فضلاً عن المعتوهين. والأغرب من ذلك عندما يتحول من حول هؤلاء إلى أفراد أو أرواح تعيش في جسدين، بحيث يصبح الواحد منهم يتحرك في شخصيتين الأولى يقضي بها نهاره مع المستبد في حركاته وسكناته وفعاله حتى إن لم يشاركه الصنعة. وبعد العودة من هذه المهمة الصعبة والخلوة مع النفس أو مع الأصحاب الذين يمقتون هذا المستبد لا يعرف التصرف السليم تجاه ما يُقال في فترة غياب المستبد ولو لسويعات، فالسكوت في حد ذاته يتحول إلى أداة للقتل المعنوي والكلام الصريح ينقل سراعاً إلى علم المستبد بسرعة البرق إن لم يكن أسرع والتلميح يفسر بالخيانة العظمى وما بين ذلك أطنان من الظنون السيئة حتى يقع المسكين في حفرة التخوين والعمالة التي لا يدرك لها قعر. وإذا سقط المستبد ذاته في ذلك القعر فإن من كانوا حوله يعانون أكثر منه، بسبب البوصلة المفقودة طوال حكمه في تقييم محبيه من مبغضيه. وينال الذين لم يمارسوا فعل الاستبداد مع المستبد ظلماً مركباً بسبب التهمة المباشرة في كونهم جزءاً من بطانته، وقد لا يطول الوقت بهم حتى تمارس المساواة غير العادلة بين من وقع فعلاً في شر الاستبداد مباشرة وبين من تراكمت عليه ممارسة الازدواج في أفعاله حتى يتخلص من شرور المستبد أو حتى شرارته. وقد يظن البعض أنه بمجرد التخلص من المستبد فإن الأمن والأمان والطمأنينة تحل قريباً من نفوس الذين عانوا من ويلاته، ولكن المفاجئ قد يكون أعتى إذا استمر نظام الاستبداد ذاته مع ذهاب شخصه، ومن هنا يكون تغيير الأنظمة من جذورها أكثر صعوبة من إزالة فرد حكم بالاستبداد شعباً أجبر على أن يعيش حياة طويلة تحت مظلة ازدواج الشخصية حتى ينجو مما هو أسوأ. والدليل على هذه الحال واضح في ثنايا التغييرات التي تمر بها بعض الدول العربية ونلمسها في ثنايا الأفراد الذين خرجوا للتو من عباءة الازدواجية الإجبارية ليعلنوا بكل شفافية عن كل ما كان يحدث في تلك البلاد المتغيرة من أهوال لم تقرأ عنها في التاريخ القديم ولا المعاصر، فالتفاصيل جارحة لأدنى درجات الكرامة الإنسانية وهي منثورة على الملأ الإلكتروني لطالب المزيد. إن ما يحدث في بعض الدول العربية من تغيير لا ينبغي النظر إليه فقط على أساس أنه تغيير حاكم بحاكم أو نظام بآخر مهما كان وصفه السياسي، فما نراه اليوم أكبر من ذلك بدليل أن الجامعة العربية ذاتها لم تقبل الوضع المزري في بعض تلك البلدان التي خرجت على كل الخطوط الحمراء في نمط ممارساتها اللاإنسانية تجاه شعوبها التي صبرت عقوداً أملاً في التغيير الذاتي إلا أن ذلك الأمل صار مملاً وطعمه أصبح علقماً، وذات الانتظار غدا قاتلاً من الدرجة الأولى فكان ما كان من الحراك الذي لا تعرف حتى الساعة نتائجه الحاسمة.