يجتاح كلاً من العالم العربي والاتحاد الأوروبي حريق يخشى أن يلتهم الأخضر واليابس. الحريق في العالم العربي سياسي- قيمي، والحريق في الاتحاد الأوروبي مالي- اقتصادي. ويتطلب الحريقان نظاماً جديداً للإطفاء، وآلية جديدة للتعامل مع الحريق بفعالية أكبر. لقد اكتشفت جامعة الدول العربية من خلال تعاملها مع كل من الأزمات الدموية التي اجتاحت ليبيا واليمن ثم سوريا، أنها تملك الإرادة للإطفاء ولكنها لا تملك الآلية اللازمة لذلك. حتى أجهزة مراقبة ما يحدث داخل الدول العربية غير متوافرة. صحيح أن الجامعة كانت دائماً عاجزة عن التصدي بفعالية للمشاكل السياسية والأمنية العربية البينية، ولكنها أمام فداحة الخسائر البشرية، وأمام استمرار إزهاق الأرواح، لم تعد ضميريّاً وقوميّاً قادرة على تبرير اللاعمل بحجة عدم وجود صلاحيات أو انعدام الإمكانات. عندما احتدمت الحرب الأهلية في لبنان (1975- 1989) قامت الجامعة العربية بمبادرتين، عسكرية وسياسية. تمثلت المبادرة الأولى بإرسال "قوات الردع العربية" للفصل بين القوى المتقاتلة. غير أنه سرعان ما تحولت هذه القوات إلى قوات سورية، بعد أن عجزت القوات العربية الأخرى عن القيام بالمهمة التي انتدبت لها. ثم سرعان ما استمرأت القوات السورية التي استفردت بلبنان الهيمنة السياسية وحتى الإدارية عليه، وهي أخطاء اعترف بها الرئيس السوري بشار الأسد نفسه ولكن بعد فوات الأوان. أما المبادرة السياسية، فتمثلت في قرار القمة العربية في الدار البيضاء (1989) بالدعوة إلى مؤتمر الطائف الذي انبثق عنه الاتفاق الوطني الجديد الذي أدى إلى وقف التقاتل وإلى وضع دستور جديد للبنان. ولكن مبادرات جامعة الدول العربية غابت عن السودان الذي انقسم الآن إلى دولتين. كما غابت عن الصحراء الغربية التي لا تزال منذ عام 1975 تستنزف المغرب بشريّاً وماليّاً، كما أنها لا تزال تؤزم العلاقات بين المغرب والجزائر. حتى أن الحدود البرية بين الدولتين المغاربيتين الشقيقتين لا تزال مقفلة منذ أكثر من عقد ونصف العقد من الزمن! بل إنها غابت عن الانقسام الفلسطيني بين حركتي "فتح" و"حماس" (أي بين الضفة الغربية وقطاع غزة) فعملت كل من المملكة العربية السعودية، وقطر، ومصر على ملء هذا الفراغ الذي كلف القضية الفلسطينية ثمناً غاليّاً. وكان الاتحاد الأوروبي قد واجه حالة من هذا النوع بعد انتهاء الحرب الباردة وتمزق الاتحاد اليوغسلافي تحديداً. فقد شهدت البوسنة والهرسك أخطر حرب أهلية في قلب أوروبا، وشهدت أفظع عمليات جرائم الإبادة التي عرفتها القارة منذ الحرب العالمية الثانية. ولم يكن الاتحاد الأوروبي في التسعينيات من القرن الماضي يملك آلية عسكرية أو سياسية للتعامل مع هذا الوضع الجديد لمنع انتقال النار إلى الدول الأخرى، وخاصة إلى تلك الدول التي تعرف حركات وطنية إثنية (كورسيكا في فرنسا) أو ثقافية (الباسك في إسبانيا) تتطلع إلى الاستقلال عن الدولة الأم. ولذلك قامت الولايات المتحدة بملء الفراغ مباشرة وعبر حلف شمال الأطلسي. وقد تعلم الاتحاد الأوروبي منذ ذلك الوقت أنه يحتاج إلى صناعة آلية للتعامل مع مثل هذه الأحداث، فبادر إلى إنشاء قوة أوروبية مشتركة نواتها قوات ألمانية وفرنسية. كما شكل مجلساً للسياسة الخارجية لمراقبة الأحداث والتطورات الخارجية وخاصة تلك التي تنعكس مباشرة على المصالح الأوروبية. وتقف اليوم على رأس هذا المجلس السيدة كاثرين آشتون. غير أن الأزمة المالية التي عصفت باليونان، والتي امتدت الآن إلى إيطاليا، تشكل حافزاً جديداً أمام الاتحاد الأوروبي لإنتاج آلية للتعامل مع الأزمات المالية الاقتصادية داخل البيت الأوروبي. ومما يلح على ضرورة إنتاج هذه الآلية أن خطر الحريق المالي يهدد كذلك إسبانيا والبرتغال وحتى إيرلندا. فإذا وصلت النار إلى هذه الدول فإنها قد تقصم ظهر "اليورو"، وقد تقوّض الوحدة الأوروبية من أساسها. ولذلك تسارع الدول المعافاة وخاصة ألمانيا إلى التضحية بمئات المليارات من الدولارات لإطفاء الحريق قبل أن يأكل الأخضر واليابس. ويبدو أن هذا ما تحاول القيام به جامعة الدول العربية التي لا تملك أي آلية للتعامل مع الحرائق المتنقلة، ولا حتى مجرد فريق إطفاء مؤهل ومجهز للتعامل مع النتائج الإنسانية والسياسية المترتبة عن هذه الحرائق. ذلك أنه ما كان للمبادرة التي أقرتها جامعة الدول العربية بشأن ليبيا (عندما كانت قوات القذافي تستعد لاجتياح مدنية بنغازي) أن تترجم إلى واقع لو لم يتلقفها حلف شمال الأطلسي من يد الأمم المتحدة. ولو كانت الجامعة تملك آلية ذاتية للتدخل، لاختلف الوضع من حيث الشكل والجوهر. وقد اكتشفت الجامعة أخطار غياب هذه الآلية في ضوء تمرد صالح على المبادرة التي طرحها مجلس التعاون الخليجي، وحتى على المساعي المكملة لهذه المبادرة التي تقوم بها الأمم المتحدة. إلا أن الاكتشاف المدوي لفداحة غياب هذه المبادرة كان في سوريا التي ما عرفت منذ قيامها ما تشهده اليوم من مآسٍ ذهب ضحيتها حوالي الأربعة آلاف سوري على مدى الأشهر التسعة الماضية. وقد اكتشفت جامعة الدول العربية أنها لا تملك حتى آلية لمراقبة الأحداث في سوريا. ولا تملك آلية لمساعدة المنكوبين. وأن كل ما تملكه هو الضغط السياسي- المعنوي على الحكومة. وهو ضغط غير كاف كما أثبتت الوقائع لوقف عمليات القتل ولإنقاذ وحدة سوريا من خطر التداعي الذي يتهددها. لقد كشفت الوقائع السياسية والأمنية التي تعصف بدول الجامعة العربية أن الجامعة نفسها بحاجة إلى عملية جراحية تنقلها من الوضع الذي هي عليه الآن إلى وضع جديد يمكنها من مواكبة "الربيع العربي"، بل ويجعلها رمزاً له. ومما يشجع على ذلك، القرار الأول الذي اتخذته الجامعة بتعليق عضوية ليبيا ثم برفع الغطاء العربي عن نظام القذافي وإعطاء الضوء الأخضر للأمم المتحدة -وتاليّاً لحلف الأطلسي- للتدخل العسكري من أجل حماية المدنيين الليبيين. وعلى رغم الأخطاء الكارثية التي شوهت عمليّاً هذا القرار، فإن ليبيا تخلصت من حكم استبدادي مطلق تحكّم فيها وفي شعبها على مدى أربعة عقود. ويشجع على ذلك القرار الثاني الذي اتخذته الجامعة بشأن سوريا بعد أن فشلت كل مساعيها الأخوية لوقف عمليات القتل.لقد تعلمت الجامعة من المآسي العربية (أحداث ليبيا وسوريا واليمن) ومن النجاحات العربية (أحداث تونس ومصر) ومن السقطات العربية (أحداث سوريا) أنها لا تستطيع أن تستمر على الصورة التي هي عليها. وأن عليها أن تغير طريقة عملها وتعاملها على النحو الذي سبقها إليه الاتحاد الأوروبي من قبل. وهذا يتطلب إعادة النظر في ميثاق الجامعة بما يمكنها من استحداث آلية جديدة للعمل السياسي وحتى للتدخل العسكري عند الضرورة. ويشكل ذلك البوابة التي تعبرها الجامعة إلى "الربيع العربي".