هناك خصوصية شديدة تربط النظام الدولي بالنظام الإقليمي العربي، لا تتعلق فقط باللحظة الثورية الراهنة، ولا بالنظام الدولي الماثل حاليّاً، بل بلحظات كثيرة في تحول البنية الدولية بوجه عام، بحيث بات التأثير المتبادل بين هذين النظامين يشكل حالة فريدة. فالعالم العربي يؤدي على مدار تاريخه دوراً فاعلًا في توازنات القوى بين المراكز السياسية الدولية. إذ كان بؤرة لمختلف أشكال التنافس العالمي عبر النظم الدولية التي شهدها العالم سواء القطبية أو المتعددة. وبشكل أكثر تفصيلاً، فإن المنطقة العربية كانت فيما يبدو ذات أهمية بالغة للأطراف المتحالفة في الحرب العالمية الثانية، وهي الأطراف المتسابقة في ذلك الوقت لتحديد أدوارها في النظام الدولي الذي كان في طور التكوين. فالحرب التي دارت رحاها على أرض مصر عام 1956، حيث العدوان البريطاني الفرنسي الإسرائيلي، كانت نقطة تحول في النظام الدولي من خلال إتيانها على الأحلام الامبراطورية التي كانت ولا تزال تراود بريطانيا وفرنسا في السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، إذ برزت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي كقطبين رئيسيين معترف بهما من قبل المجتمع الدولي برمته بعد أن أجبرا الأطراف الثلاثة على وقف العدوان. وكان هذا التدخل بمثابة إعلان لبريطانيا وفرنسا أن وضعهما على الساحة الدولية قد تغير تماماً. ثم تأكدت هذه الخصوصية في عدة أحداث ووقائع حتى جاءت حرب أكتوبر عام 1973 لتغذي عملية التحول من الحرب الباردة إلى الوفاق بين القطبين الكبيرين، الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. وجاءت حرب الخليج الثانية، التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفييتي، لتعلن ميلاد نظام دولي جديد، يقوم على انفراد قطب واحد بقوة تمكنه من أن يسير دفة أمور كثيرة في العالم المعاصر. وفي الحقيقة فإنه منذ اللحظة الأولى للإعلان عن ميلاد النظام الدولي الجديد على لسان بوش (الأب) تباينت وجهات النظر العربية حول سبل التعامل معه من حيث التوقيت والأداء والعلاج. فمن حيث التوقيت بادر البعض وقتها وطالبوا بضرورة أن يلقي العرب بأنفسهم في خضم التفاعلات الدولية اعتماداً على الأهمية النسبية التي يوليها النظام الدولي للمنطقة العربية، بينما اتخذ آخرون موقفاً اتسم بالتريث والهدوء حيال التغيرات الدولية من منطلق اقتناع بأن الدخول في المعترك الدولي الجديد يتطلب ترتيب البيت العربي من الداخل حتى يمكن للعرب أن يشكلوا جزءاً ذا بال من معادلات القوة على الساحة الدولية. ومن حيث الأداء تجاذبت العرب ثلاثة خيارات أولها التعايش مع هذا النظام استناداً إلى تصور مفاده أن النظام الإقليمي العربي لا يصنع ظروفه وإن صنعها فهو لا يشكل ما يحيط به من تطورات على المستوى العالمي، ومن هنا فإن الأجدر بالعرب أن يتعايشوا مع النظام الدولي الراهن لالتقاط الأنفاس بعد كارثة حرب الخليج الثانية، وتحريك مفاصل الوعي العربي نحو استقلال تدريجي عن قبضة هذا النظام، أو بمعنى آخر التحرك تباعاً بعيداً عن فلك الهيمنة الأميركية. وثانيها التكيف، أي تحييد آثار التغيرات الدولية أو على الأقل الخروج بأقل خسارة ممكنة. وثالثها التفاعل بمعنى الخروج عن النمط التقليدي في التعامل العربي مع النظام الدولي، والكف عن الارتكان إلى الواقعية السياسية فقط، واتخاذ خطوات جريئة تخرج النظام العربي من حالة الدفاع والتبعية إلى حالة الهجوم والاستقلال. ومن حيث العلاج انقسمت الآراء إلى شقين، الأول هو الشروع في إصلاح النظام الإقليمي العربي الحالي. والثاني هو بناء نظام جديد قادر على التفاعل بإيجابية مع النظام الدولي الراهن. ولكن هذه الخيارات لم تستقر على حالها، فبينما كان العرب لا يزالون منقسمين، على الأقل على مستوى النخبة الفكرية، بين أساليب التعامل مع النظام الدولي، وقعت هجمات الحادي عشر من سبتمبر، لتتغير معادلات وأمور كثيرة في الحسابات الاستراتيجية العربية. فهذه الحادثة المروعة تسببت في تداعي القواعد التقليدية في العلاقات الدولية، وفي هز أركان النظام الدولي، وساهمت في حصر أولويات الولايات المتحدة بشكل مفاجئ في مشكلة واحدة هي الإرهاب، مما دفعها إلى الدخول في مقايضات مع أطراف دولية عديدة بهدف الحصول على دعمها للمجهود الأميركي. كما دفع هذه الأطراف من جهتها إلى محاولة الاستفادة من الحدث، إما انطلاقاً من موقعها الاستراتيجي أو حساباتها الإقليمية، أو حاجة الولايات المتحدة لها، الأمر الذي قاد في النهاية إلى انضواء دول، ما كان أحد يظن لها ذلك، تحت عباءة النفوذ الأميركي. وإثر وقوع حادث الحادي عشر من سبتمبر وجدت الدول العربية نفسها في قلب التداعيات التي ترتبت عليه، بدءاً باتهام "تنظيم القاعدة" الذي يشكل "الأفغان العرب" الجزء الأكبر من أعضائه وقدراته المالية والتخطيطية، وانتهاء بوضع تنظيمات ودول عربية في فوهة المدفع الأميركي في إطار الحملة التي تقودها واشنطن على "الإرهاب الدولي"، مروراً بحزمة من السياسات والتدابير الأمنية التي أخذت شكل "مطالب" تقدمت الإدارة الأميركية إلى دول عربية عديدة من أجل القيام بها، والتي وصلت إلى حد الضغوط، في كثير من الحالات. ولكن إدراك النظام الدولي للعرب سابق على هذه الحادثة، حيث هناك دائماً صور نمطية مغلوطة للشخصية العربية في الذهنية الغربية، لم يفلح العرب في إزاحتها، حتى جاء الحادي عشر من سبتمبر ليتم تكريسها عبر آلة الإعلام الأميركي الضخمة. ومع ذلك لم يتمكن أحد من أن يقلل من الأهمية "التقليدية" للعالم العربي التي يستمدها من التاريخ والجغرافيا، أو "الموقع الاستراتيجي والجاذبية الجيو اقتصادية" ولذلك استمر إدراك النظام الدولي للعالم العربي على أنه مهم على مستويات جيوبوليتيكية واقتصادية وحضارية. والآن وفي ظل الثورات السلمية العربية التي قدمت نماذج ثورية جديدة للإنسانية جمعاء، أصبحت هناك فرصة سانحة أمام العرب لإعادة صياغة علاقتهم بالنظام الدولي، رافعين شعار "نحن أيضاً نعرف الحرية والكرامة ونلهم البشرية بنماذج جديدة للكفاح والنضال الوطني"، وهي مسألة بدأ العالم كله يفهمها ليراجع كل الأكاذيب التي روجها المستشرقون وصناع ظاهرة "الإسلاموفوبيا".