"موعد ألمانيا الغرامي مع التاريخ". هكذا تبدو جهود الألمان لإنقاذ الوحدة الأوروبية في تقدير "تيموثي جارتون آش"، أستاذ الدراسات الأوروبية في "جامعة أكسفورد". وإذا كان "الغرام نوعاً من الحرب" حسب "أوفيد"، شاعر الغرام في العصر الروماني، فمَنْ كالألمان يتقن حرب الغرام؟ لقد خسروها مرتين، خسارة عظمى، وها أعداؤهم في المرتين السابقتين يعلقون الآمال على انتصار الألمان هذه المرة. ولا مؤشر على تغير الزمان كالقبول بشروط إنقاذ أوروبا وفق المعايير الألمانية، وأولها أن تكون الوحدة الأوروبية مالية، وأن يضبط أعضاء الوحدة وفق هذه المعايير موازناتهم، ويعينون بموجبها ضوابط الأجور. باختصار أن تعمل أوروبا بالألمانية. ويتوقع أن يستطيع جميع أعضاء "مجموعة اليورو" وعددهم 17، العمل وفق هذه المعايير، ربما باستثناء اليونان، فيما تلزم اتفاقية الوحدة أعضاءها الآخرين (وعددهم ثمانية) بالانضمام للمجموعة، والتي تناقش تعديلاتها القمة الأوروبية في الشهر القادم. وسيكون هذا يوم الدينونة بالنسبة لبريطانيا التي فقدت امبراطوريتها ولم تجد بعد دوراً تقوم به، حسب وزير الخارجية الأميركي الأسبق دين أتشيسون. فقدت امبراطوريتها إلاّ أنها لم تفقد بعد أوهامها الامبراطورية التي تجعل الكاتب سيمون جنكنز يتساءل: "كيف يمكن أن تفرض ألمانيا الانضباط الألماني وهي لا تملك فرقاً مدرعة، ولا الرغبة في السيطرة سياسياً على أوروبا؟". ويعلن جنكنز، الذي يحمل لقب "سير" ويرأس جمعية التراث الإنجليزي "ناشينال ترست"، وفاة حكاية الوحدة الأوروبية بعد خمسين عاماً من تأسيسها، ويعتبر بيانها عن الوحدة المالية، "عتيقاً ونخبوياً وخطراً ومستحيلاً"، ويسمِّي عملة اليورو "سلاح التدمير الاقتصادي الشامل". وهنا المفارقة، حسب "تيموثي آش" الذي يذكر أن فرنسا خصوصاً هي التي ألحت على دمج ألمانيا بأوروبا. "ومعقول تماماً أن يقول الألمان: إذا كنا نضمن مالياً اليونان والبرتغال وإيطاليا، وربما فرنسا أيضاً، وننقب عميقاً في مدخراتنا التي جهدنا في جمعها، فالأحرى أن نملك حق تحديد شروط مساعدتنا، وإلاّ فإنكم تجرونا إلى مستنقع الديون والعجز والتضخم". ومشكلة ألمانيا مع أوروبا عبرت عنها المستشارة ميركل: "إذا لم نتول القيادة يتهموننا بانعدام الالتزام الأوروبي، وإذا توليناها يتهموننا بإلقاء ثقلنا على أوروبا". ولا وجود لما يُسمى رؤيا بريطانية حول أوروبا باستثناء مطالبة لندن بإلغاء الضريبة المقترحة على التعاملات المالية، وهذا أشد ما يغضب ميركل والزعماء الأوروبيين الآخرين. فهذه الضريبة التي تحمل اسم مقترحها، عالم الاقتصاد "توبين" الحائز على جائزة نوبل، تُسمى في بريطانيا "ضريبة روبن هود" الذي كان يوزع على الفقراء ما يسرقه من الأغنياء. تهديد لندن باستخدام الفيتو ضدها يعني في الواقع تحميل دافعي الضرائب عبء دفع مليارات الدولارات توفرها الضريبة التي تقاضي التعاملات المالية أقل من 0.1 في المئة، مع ذلك اعتبرها رئيس الوزراء الأسبق ميجور "صاروخاً يستشعر الحرارة" وموجهاً نحو "السيتي" حي المال في لندن. "احتلوا السيتي"، هو الجواب العملي الوحيد في تقدير جون جراي مؤلف كتاب "الفجر الكاذب: وهم الرأسمالية المعولمة". ذكر جراي أن كل شخص يملك معرفة بسيطة بالتاريخ يرى كيف تبرمجت الرأسمالية المتعجرفة خلال عشرين سنة الماضية على التدمير الذاتي. وتبدو الأسواق المعولمة منيعة طالما يمكن هندسة وهم الرفاه المتزايد، لكن عندما تنفجر الفقاعة يُفتضحُ الواقع الحقيقي للأغلبية. ولا يستبعد الباحث البريطاني انهيار اقتصادات السوق المتقدمة بشكل مفاجئ. فالمشكلة تكمن في عدم وجود منظمات معولمة تملك السلطة لإصدار الإصلاحات الضرورية. "وفي عالمنا متعدد الأقطاب، أو الخالي من الأقطاب، تتحكم القوى الجيوسياسية". وإذا كان الماضي يمكن أن يدل على الحاضر، فقد تدلنا خريطة العالم العربي الجيوسياسية للقرن الحالي على غياب ألمانيا عن أحداث تعيد نفسها بصراعاتها ومطامعها وأهوائها ونزيف دمائها وحتى لغتها ولغوها. غياب ألمانيا عن العالم العربي من أكثر الأحداث الراهنة إثارة للدهشة عند مقارنة حضورها القوي فيه على امتداد القرن الماضي. تناول ذلك كتاب صدر حديثاً بالإنجليزية عنوانه "سكة حديد برلين بغداد". والعنوان خدّاع ومعتم كالنقاب يغطي محتوياته التي لا نراها إلاّ عندما ندخل في تلافيفها، بدءاً من العنوان الثانوي للكتاب "الامبراطورية العثمانية وتنطّع ألمانيا للقوة العالمية 1898-1918". فقطار "الإكسبريس برلين بغداد" لا يستغرق من الكتاب إلاّ ما استغرقته واقعياً الجهود المتقطعة لمد سكة الحديد من محطة "حيدر باشا" في إسطنبول إلى بغداد. مؤلف الكتاب "سيان ماكميكن، الذي يدّرس في جامعتي "ييل" بالولايات المتحدة و"أنقره" بتركيا، يغرق في خضم الصراعات والمكائد وحمامات الدم في المنطقة مطلع القرن الماضي حيث اختلطت دماء العرب والأتراك والبريطانيين والألمان والفرنسيين والروس. ويرتدّ التدخل التركي الحالي في المنطقة إلى الماضي العثماني عندما نقرأ رسالة أحد قادة المعارضة التركية في باريس مطلع القرن الماضي مُتوقعاً أنه "بانتصار الأفكار اللبرالية في تركيا فإن التأثير الأخلاقي العظيم الذي تملكه إسطنبول على الإسلام سيكون إلى حد كبير ذا طابع فكري. وتأثير كهذا يمكن أن يخدم بالتالي كعامل مصالحة قوية بين الشرق والغرب". وتتناثر في الكتاب الأحداث الكبرى التي وقعت في الكتلة القارية الأوروآسيوية كتناثر سكة حديد برلين بغداد الأصلية في خطوط سكك الحجاز وبغداد وتركيا وسوريا والأردن وشمال الجزيرة العربية. حشد من المعلومات والمقتبسات عن مكائد ومراسلات مئات الشخصيات من السلطان عبد الحميد والقيصر الألماني ويلهلم، وخديوي مصر عباس حلمي، وحاكم سوريا العثماني المشهور باسم جمال السفاح، ومفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني، وزعماء أول حركات الجهاد الإسلامي التي ولدت حسب المؤلف في أحضان ألمانيا، وأقطاب الصهيونية العالمية التي ولدت أيضاً في أحضانها. و"أين هي الحكمة التي أضعناها في المعرفة، وأين هي المعرفة التي أضعناها في المعلومات" يسأل الشاعر الإنجليزي إليوت. إذا عثرنا ذهنياً أو ميدانياً على أجوبة ما عن هذه الأسئلة فلربما نعثر على الماضي والمستقبل في الحاضر. وقد نحتاج في ذلك إلى ما تحتاجه أوروبا حالياً، وضمنها بريطانيا، وهو التفكير والعمل بالألمانية. وقد نفهم آنذاك تقلبات النشيد الوطني الألماني "ألمانيا ألمانيا فوق الجميع". وضع موسيقى النشيد هايدن في القرن الثامن عشر، وأصبح أنشودة ثورة 1848 لتوحيد ألمانيا، والنشيد الوطني للبلاد منذ عام 1922، ونشيد ألمانيا الغربية عام 1952، وأخيراً تبنت ألمانيا الموحدة عام 1990 المقطع الثالث من النشيد، الذي يقول: "الوحدة والعدالة والحرية لألمانيا بلد الأجداد، لأجل ذلك فلنجاهد أخوياً بالقلب واليد، الوحدة والعدالة والحرية هي تعهدنا المصيري: ازدهري يا ألمانيا أرض الأجداد ببركات هذا المصير".