كان اللقاء برئيس مجلس النواب (البرلمان) العراقي أسامة النُّجيفي مع عدد من الجالية العراقية صريحاً، ولم يستخدم فيه مطرقة رئاسة النواب في إسكات من أظهر ما في قلبه من ألم على أحوال العراق. كان مع النجيفي عدد من نواب البرلمان، بدوا هادئين وديعين، وحاولوا تقديم صورة وردية، وأن على الحاضرين ألا يصدقوا الإعلام ومبالغاته. أحدهم ليس لديه ما يقوله سوى التذكير بما حصدناه من النظام السابق وذلك معلوم، وجفت الأقلام في الكتابة حوله. كنت أظن أن دراسة النائب الدينية عصمته من الأخطاء اللغوية، فذكر بالمقابر الجماعية، وبالشهداء وما أصاب ذويهم من خير عميم، ولم يتطرق إلى أن الشهداء صاروا طبقات، لكن تفاؤله نزل إلى القول: إن العراق قام يستورد الطماطم (لفظها الطماطة). تكلم أحد نواب القائمة العراقية وأثنى على الوضع الأمني، لكن أصوات التفجيرات ومصارع كواتم الصوت جعلته يطأطئ رأسه عندما واجهه الحضور بما آل إليه مصير هادي عبد المهدي (اغتيل 9 سبتمبر 2011)، واعتقال وتعذيب المتظاهرة آية اللامي. كان اللقاء برئيس مجلس النواب لقاءً عراقياً، بمعنى أن الدعوة جاءت مِن سفارة العراق، لا من سكرتارية حزب أو بيت طائفة، وهو اللقاء الثاني الذي أحضره لمسؤول عراقي بدعوة من بيت السفارة، فالأولى كانت مع نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي. ووجدت في اللقاء حرصاً على دعوة المختلف والمؤتلف، وهذه ظاهرة مدعاة للتفاؤل الذي قد يخفف من تشاؤمنا بعض الشيء. الأمر الآخر أن اللقاءات بمسؤولين عراقيين ظاهرة جديدة علينا، نحن السواد الأعظم، ففي ظل السابقين كان اللقاء بالرفاق فقط، أو الأخوة في العروبة، المتمرسين بالفعل القومي المدمر. أصبحنا نلتقي ونتحدث بما نريد، لا ينتظرنا خارج القاعة شقاوات الأمة العربية، أو يقوم أحدهم من داخل القاعة ويهتف باسم القائد الضرورة، وفي دور العراق في قيادة الأمة، ويحرض على إخراج من ينتقد، مع النعت بالعملاء. غدونا نذهب إلى لقاءات السَّفارات براحة بال، ونقول فيها مثلما نكتب، بلا عتب من سفير أو قائم بالأعمال، أقول كل ذلك مع تحفظنا على المحاصصة اللعينة في داخل أروقة السفارات، والتعيينات غير الحقوقية فيها. لكن هذا شيء وذاك شيء آخر. رأينا أسامة النُّجيفي رجلا متحضرا في الكلام والأسلوب، وهو على حد عبارة الجالس محاذاتي "مالئ المكان"، بمعنى رئيس نواب من "صُدك"، مثلما يقولها العراقيون. كان خلاف من سبقه، لا تستطيع تمييزه كرئيس أعلى سلطة تشريعية بالبلاد، حتى غلب الهزل على جلسات البرلمان في ظل رئاسته. قيل قدمت أسرة النِّجيفي مع العثمانيين، وأقاموا بالموصل، وتسموا باسم المنطقة التي عاشوا فيها وهي النِّجيف، التي تزيد على النَّجف بحرف، لذا أخذت تفهم على أنها تصغير للنَّجف، وهي كذلك، فترى العراقيين مأخذوين بالتصغير، منه للتحبب والملاطفة، ومنه للدلالة على الضآلة. للنَّجف والنَّجيف معنى واحد، ألا وهو مكان لا يعلوه الماء، ويُقال لأبط الكثيب نَجفة، والنِّجاف عتبة الباب، وأهل اليمن يسمون الثُّريات نجفات لعلوها. وقال في ذلك أبو كَبير الهُذلي (حوالى 10 هـ): "نُجفٌ بذلتُ لها خوافي ناهضٍ.. حَشرِ القوادمِ كاللفاع الأطحل" (الجوهري، الصحاح). لكن أحدهم ممن لا يعرف أن هناك نُجيف بالفعل وأهلها من أهل السُّنَّة، عندما كان أسامة حاد اللِّسان ضد الأحزاب من غير جماعته، قال: إنه لا صلة له بالنجف! مع أن لا النَّجف ولا النُّجيف كانتا سُنيتين أو شيعيتين عندما عُرفتا بهذا الاسم! كان صاحبنا يعتقد أن أسامة النَّجيفي تحدر من النَّجف وتمرد على أصله المذهبي. ماذا نقول سوى: "لله في خلقه شؤون". حمل العثمانيون أسراً عديدة مِن بلاد تركيا وما يتبعها مِن البلدان، في حملاتهم على العراق، وظهرت حالياً أُسرتان هما آل النِّجيفي وآل الجلبي، ممثلتان حالياً في السِّياسة العِراقية بأُسامة النُّجيفي وأحمد الجلبي، لكن لم يختر كلٌّ منهما مذهبه، إنما حدده المكان، فآل النُّجيفي أنزلهم العثمانيون الموصل فظلوا على مذهبهم، وأُنزل آل الجلبي الكاظمية فصاروا على مذهبها، وهي صارت شيعية منذ دفن الإمام موسى بن جعفر فيها (183 هـ)، حيث مقبرة ارستقراطية قريش، ففيها دُفن قبل ذلك جعفر بن أبي جعفر المنصور (150 هـ)، وكبار أُمراء بني العباس وأميراتهم. القصد لو تُسترجع تلك الأُصول والتحولات، التي قد لا يملك الإنسان فيها خياره، لخُفف من التَّعصب، وإقحام المذاهب في السياسة. هذا ما سأله أحدهم لرئيس البرلمان، بأنه انطلق من منطق طائفي بالدعوة إلى إقليم سُني، قبل شهور، وما أخذ الآخرون يتحدثون فيه عن بيوت شيعية وأهلةٍ. على أية حال، وجدنا في اللقاء مع رئيس البرلمان لا تفاؤلاً ولا تشاؤماً، منطقة وسطى على ما يبدو، لنا أن نسميها بعد الاقتباس مِن الرُّوائي الفلسطيني (ت 1996) أميل حبيبي: "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النَّحس المتشائل" (صدرت في أوائل السبعينيات من القرن الماضي)، وكانت لها رنة بين الجمهور، وأخذت مفردة "المتشائل" تتداول، ويصف بها المثقفون والسياسيون أحوالهم، وهي الجمع بين التفاؤل والتشاؤم، فما مرَّ على أبي النحس من حوادث كانت ترفعه تارة وتهبط به تارة إلى الدرك. هكذا رأيت النُّجيفي حين يتحدث عن البرلمان يصعد به التفاؤل إلى الذروة، وله العذر كونه الرئيس، لكنه عندما يأتي على أوضاع البلاد العامة، وسياسة الحكومة وجدناه يحبس أنفاسه تشاؤماً، ويجيب على سؤال يحرج الجميع: متى الخروج من النفق المظلم؟! بالقول: لا أدري، فالظروف أصعب مما تتصورون، والأحوال بائسة. قال: إن البرلمان شرع أربعين قانوناً، وسيطيح بهامات كبرى فاسدة. لكني أسأله جاداً لا هازلاً: قبل عام تقريباً ضج البرلمان بالبحث عن 40 مليار دولار ضائعة، وسكت، ثم أخذ بالبحث عن 17 ملياراً ضائعة، فبينهما 23 ملياراً، فأي الرقمين كشفه البرلمان؟! المشكلة يا رئيس النواب في النواب، بالسكوت عن الفساد والسكوت عن كاتم الصوت، خلا صوت صاحب العمامة البيضاء صباح الساعدي. فإذا فسد البرلمان "بُنيان قومٍ تهدَّما"، والبيت لعبدة بن الطَّيب (ت 25 هـ): "فما كان قيسٌ هلكه هلك واحد.. ولكنه بٌنيان قومٍ تَهدَّما" (الثَّعالبي، خاص الخاص).