قرار الجامعة العربية بتعليق عضوية سوريا إلى حين قيامها بالتنفيذ الكامل للمبادرة العربية، وصف بأنه قرار تاريخي وشجاع، وأن الجامعة بهذا القرار المؤيد من 18 دولة عربية، وهي أغلبية غير معتادة في قرارات المجلس، وضد عضو مؤسس يعد نفسه (قلب العروبة) ودولتها المركزية، ترد الاعتبار لمكانتها الإقليمية ولدورها الفاعل، كما تثبت قدرتها على مواجهة الأحداث التي تعصف بالمنطقة وتغير صورة العرب أمام العالم كله تقريباً. ولطالما نظرنا إلى الجامعة باعتبارها مؤسسة رسمية للنظم العربية، تعبر عن إرادة هذه النظم، وبغض النظر عن تطلعات الشعوب العربية، ولطالما وصفناها بالعجز والجمود، كما انتقدنا أمناءها العامين كونهم غير قادرين على تفعيل العمل العربي المشترك. وقد نال الأمين العام الجديد الدكتور العربي جانباً من ذلك النقد أو اللوم بعد زيارته الأولى لدمشق قبل فترة من الآن، حيث وُصف موقفه بالسلبية وخذلان الثورة السورية. ظلت الجامعة العربية أسيرة نشأتها التاريخية وميثاقها وإملاءات بعض النظم التسلطية فيها، مما كان له الأثر الأبرز في تعويق دور الجامعة وتحجيم فعاليتها وشل قدرتها على القيام بمسؤولياتها على الوجه الذي آملته وتأمله الجماهير العربية منها. واليوم، وبهذا القرار المفصلي، ترتقي الجامعة لتتجاوب مع تطلعات الشعوب العربية في الحرية والكرامة والعدل. لم يكن الكثيرون يتوقعون مثل هذا القرار الحاسم ولا هذا السلوك الجديد من الجامعة، والتي يبدو أنها أخيراً "شربت من حليب السباع" كما يقول الرميحي. نعم الجامعة العربية اليوم في عصر الربيع العربي، غير جامعة الأمس عندما سكتت على المذابح في حماة وحلبجة. لقد تغيرت الجامعة وبدأت بتفعيل دورها لمواكبة المستجدات والاستجابة لمطالب الرأي العام العربي وطموحاته في تجاوز أوضاع التخلف والتردي والاستبداد، وهي بذلك تثور على ماضيها وتتحرر من قيودها. وما كان للجامعة أن تتغير إلا بفعل ثلاثة عوامل: أولها تضحيات شعوب بلاد الربيع العربي في مواجهة أجهزة القمع بعد أن سقط حاجز الخوف، وثانيها قوة الدفع التي تمثله دول مجلس التعاون والتي تقوم بدور تاريخي وبنّاء لملء الفراغ السياسي بعد انحسار أدوار الدول العربية المركزية. أما العامل الثالث والأخير فهو روح العصر المتعطشة إلى الحرية ممثلة في جهود وتحركات المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان والمساندة لحق الشعوب العربية في صنع مستقبلها. لقد رحب المجتمع الدولي بالقرار العربي وأشاد به ووصفه بالقرار الشجاع. وكانت لتركيا جهود مقدرة في تنسيق الإجراءات الرامية إلى حماية المدنيين الأبرياء الذين يواجهون بصدورهم العارية قوى البطش في العديد من المدن السورية حيث يتساقط العشرات منهم يومياً! يا لشجاعة هذا الشعب الذي يقدم أعظم نماذج البطولة والتضحية في سبيل الحرية والكرامة! كان وقع القرار على النظام شديداً، وقد أفقد وزير الخارجية السوري ومندوبه في الجامعة اتزانهما فتهورا وخرجا عن حدود اللباقة وهاجما الجامعة واللجنة الوزارية ورئيسها بعبارات منافية للأعراف والآداب. وما كان من رئيس الاجتماع، إلا أن يرد بكل تهذيب: "سامحه الله، إن هدفنا مساعدة سوريا وتجنيبها المخاطر". لقد أمسكت الجامعة بزمام المبادرة، حرصاً على سوريا ومنعاً للتدويل، وذلك من منطلق "بيدي لا بيد عمرو". لذا فثمة الآن تساؤلات كثيرة ترد على الذهن: لماذا تتسم ردود فعل ممثلي النظام السوري بعدم الاتزان تجاه المخالفين؟! وما سر هذه العصبية الملازمة لهذا النظام ضد أي نقد داخلي أو خارجي؟! أتصور أنها أيديولوجية "البعث" القائمة على النظرة الاستعلائية من جهة، وعقدة الشك والارتياب في الآخر من جهة أخرى، وهما عقدتان تحكمان النظام السياسي في دمشق منذ انقلاب "البعث" عام 1963 واستيلائه على السلطة. فلدى هذه السلطة إيمان يصل إلى درجة اليقين، بأن سوريا "هي قلب العروبة النابض" و "حصن العرب الحصين"، لتاريخها وموقعها، وبأن سوريا دائماً مستهدفة من قبل الأعداء المتآمرين، وبأن قدر سوريا أن تكون "قلعة الصمود والمقاومة"، وبأن رسالتها أن تكون "قائدة للنضال". وقد عبر عن هذه المضامين الرئيس بشار في خطابه بمناسبة الذكرى الـ66 لبناء الجيش السوري، وذلك بقوله: "إذا كان قدر سوريا أن تكون في موقع القلب لهذه المنطقة الجيوستراتيجية، فإن إرادة أبنائها تأبى إلا أن تكون قلب الأمة النابض. إن تمسكنا بثوابتنا يزيد حقد الأعداء علينا، لكننا قادرون على أن نسقط هذا الفصل الجديد من المؤامرة بهدف تفتيت سوريا تمهيداً لتفتيت المنطقة برمتها". كما عبر وزير خارجيته عن المضمون نفسه تقريباً، وذلك في معرض هجومه على قرار الجامعة العربية حين قال: "إن سوريا تهب عليها عواصف تآمرية من جهات عدة، وهي تدفع ثمن صلابة مواقفها وصدق عروبتها". النظام السوري يعتقد أنه ضحية مخططات تآمرية تستهدف سوريا، لمواقفها ودورها القومي والنضالي، ولذلك لا يستغرب موقف مندوبه حين يقول: "طظ في الجامعة"، متهماً إياها هو أيضاً بالتآمر تنفيذاً لإملاءات الخارج. بل وصل بهم الأمر إلى شن حملة سباب على دول مجلس التعاون الخليجي، وقد خص قطر واستصغرها قائلاً إنها تلعب دوراً أكبر منها! إن هذا المزيج من الاستعلاء على الآخرين والارتياب في مواقفهم وتخوينها، هو أمر معهود وصفة ملازمة لكافة ممثلي ورموز وحراس النظام، فقد رسخت التنشئة السياسية ومناهج التعليم ومنابر التوجيه والتثقيف هذه العقد في نفسياتهم، كما رسخت في عقولهم صورة سوريا باعتبارها دولة العروبة الكبرى، فكيف تتجرأ دول الأطراف والهوامش على أن تقود حركة تعليق عضوية سوريا، وهي حجر الزاوية في النظام العربي؟! تغير العالم ولم يتغير النظام السوري، لا زال ممثلوه يعيشون أوهام الدول الكبرى والصغرى في عصر تُقيم فيه الدول بفعاليتها وإسهاماتها وعطاءاتها في ميادين السلام والتنمية والاستقرار وحقوق الإنسان... لا بشعاراتها وتاريخها وموقعها. إنها هواجس التآمر وأوهام الارتياب التي تصور للنظام أن العروبة حق حصري له يمنحه لمن يشاء وينزعه ممن يشاء، فمن خالفه وانتقده أسقط عروبته وأصبح عميلاً متآمراً! لن يفيد النظام استعلاؤه على شعبه وعلى الآخرين، ولن يصدقه أحد في ترويجه مخططات التآمر التي تحاك ضده، لن يفيده ويغنيه إلا الاستماع لمطالب شعبه.