مع أن النظام السياسي المصري يمر في الوقت الراهن بمرحلة انتقالية، إلا أننا نرى مع ذلك أعداداً كبيرة من المصريين تخرج بشكل منتظم للتظاهر ضد الحكومة في شوارع القاهرة وغيرها من المدن المصرية، فما الذي يحدث؟ يتحاور المصريون حالياً حول الكثير من الموضوعات التي تتعلق بمستقبل بلادهم السياسي، وهو الشيء الذي كان منتظراً بعد الإطاحة برئيسهم الذي ظل يحكمهم لثلاثين عاماً. غير أن الشيء الفريد في ذلك، والملفت للنظر في الحقيقة، هو أن اللاعبين الاثنين الرئيسيين في هذه الدراما يتمثلان في مجموعتين خاصتين هما المجلس الأعلى للقوات المسلحة من جهة والمتظاهرون في ميدان التحرير وغيره من الميادين الرئيسية في المدن المصرية الأخرى من جهة أخرى. فهاتان المجموعتان هما اللتان تقودان في الواقع المناقشات التي تدور في مصر في الوقت الراهن حول مستقبلها. ومن المعروف أن المظاهرات الضخمة التي حدثت بين25 يناير و11 فبراير من هذا العام هي التي أسقطت مبارك، وأتاحت للجنرالات السيطرة على الحكم في البلاد. والوضع حالياً هو أن منصب الرئاسة قد بات شاغراً، كما تم تغيير كافة المؤسسات التي كان مبارك يسيطر عليها بعد أن تم حل البرلمان، وإقالة مجلس الوزراء برمته، وحل الحزب الوطني القوي الذي كان يقوده مبارك، وتغيير قيادات المؤسسات الإعلامية المختلفة، ومحاكمة وإدانة وسجن رئيس وزراء مبارك، ووزير داخليته ومجموعة أخرى من وزرائه ومسؤولي نظامه، وتوجيه اتهامات لوزير التجارة والصناعة ووزير المالية في عهده(هاربان حتى الآن) للمحاكمة، بالإضافة لتقديم مبارك نفسه مع نجليه جمال وعلاء للمحاكمة. وقد اتخذ جنرالات المجلس الأعلى للقوات المسلحة جميع هذه الخطوات، أو أشرفوا على اتخاذها، ولكنهم وعدوا مع ذلك بالتخلي عن السلطة، بمجرد الانتهاء من تكوين المؤسسات الديمقراطية. مع ذلك استمر الناس الذين أسقطوا مبارك في التظاهر في الشوارع كل أسبوع احتجاجاً على إجراءات معينة اتخذتها الحكومة الانتقالية، أو أحكام وقرارات أصدرتها المحاكم بمباركة الجنرالات. وهذه التظاهرات ليس لها منبر موحد، ولا قيادة معينة والجماعات المشاركة فيها تختلف من أسبوع لأسبوع حسب الموضوع الذي يتم التظاهر بشأنه، وعلى الرغم من أن زعماء الأحزاب السياسية والمرشحين المحتملين للرئاسة يستغلون هذه التظاهرات للتعبير عن آرائهم، إلا أن الدور الأكبر فيها تقوم به تلك الكتلة الجماهيرية المتغيرة باستمرار، والتي لا قيادة لها حتى الآن. يميل المصريون عادة إلى احترام الجيش، وهو احترام ازداد كثيراً بعد الموقف الذي اتخذته المؤسسة العسكرية أثناء التظاهرات التي أطاحت بحكم مبارك. وقد توقع الجنرالات في البداية أنهم سيتولون المسؤولية خلال فترة انتقالية نحو الديمقراطية، ثم يعيدون جنودهم مرة أخرى للثكنات محتفظين بسمعتهم الطيبة سليمة دون أن تمس. ولكن مع مضي الشهور، تعرض الجنرالات لانتقادات عديدة من قبل المتظاهرين الذين يلقون عليهم باللائمة جراء العديد من المشكلات التي لا تزال البلاد تعاني منها مثل الانفلات الأمني على سبيل المثال لا الحصر. وفي الحقيقة أن الجنرالات قد استجابوا لمعظم الطلبات التي طرحها المتظاهرون، بحيث يمكن القول إن المناقشة المتعلقة بمستقبل مصر التي دارت خلال المرحلة الانتقالية قد تمت في الأساس من خلال حوار بين الجنرالات من ناحية وبين الشارع من ناحية أخرى. وقد استمر هذا الوضع غير المعتاد لعشرة شهور الآن. والجنرالات كما هو معروف غير معتادين على الانخراط في حوارات عامة بشأن أفعالهم وما يقومون به من إجراءات، ولكنهم أدركوا خلال تلك الفترة أنه يتعين عليهم القيام بذلك، باعتبارهم السلطة المسؤولة في البلاد. كما تعلم الجنرالات أيضاً التوصل إلى تسويات. ففي البداية، قرروا على سبيل المثال إرسال العديد من القضايا المختلفة للمحاكم العسكرية، ولكن بعد التظاهرات العديدة التي تمت احتجاجاً على ذلك الإجراء، قرروا محاكمة المدنيين أمام المحاكم المدنية. ومن الأمثلة على ذلك أيضاً، أنهم قرروا في البداية إجراء الانتخابات البرلمانية في شهر يونيو كما كانوا قد وعدوا بعد أن تولوا المسؤولية، ولكنهم عادوا فأجلوا تلك الانتخابات إلى شهر سبتمبر ثم إلى شهر نوفمبر استجابة لمطالب الشارع والأحزاب بإتاحة المزيد من الوقت للاستعداد لخوض تلك الانتخابات. ومن الأمثلة أيضاً أنهم رفضوا في البداية القبول بالمراقبة الدولية للانتخابات ولكنهم تنازلوا عن موقفهم هذا أمام الاحتجاجات الشعبية. الشكوى الأخيرة ضد الجنرالات هي تلك المتعلقة بإعلان المبادئ الدستورية التي قدمها نائب رئيس الوزراء على السلمي في بداية نوفمبر الحالي، والذي يطالب بتوفير إجراءات حماية خاصة للمؤسسة العسكرية مثل أن تكون لها ميزانية خاصة غير خاضعة لإشراف البرلمان المنتخب. ومن المعروف أنه كان من المقرر حسب البرنامج الموضوع أن تتم كتابة الدستور بشكل كامل من قبل البرلمان المنتخب الجديد عند انعقاده في شهر مارس المقبل. وهذه الحقيقة هي التي دفعت العديد من المصريين إلى النظر إلى وثيقة "السلمي" على أنها محاولة من قبل الجنرالات لاستباق تلك العملية، من خلال القيام مقدماً بضمان امتيازات خاصة للجيش في الدستور. ولهذا السبب شجب زعماء الأحزاب السياسية الوثيقة المذكورة، كما دون المحتجون العديد من القيود على موقعي "فيسبوك" و"تويتر" احتجاجاً عليها في بداية الأمر. وفي يوم الجمعة الثامن عشر من نوفمبر تجمع ما يقرب من 50 ألف متظاهر في ميدان التحرير للاحتجاج على تلك الوثيقة. واستمع الجنرالات إلى تلك الاحتجاجات كما ظلوا يفعلون دائماً طيلة الفترة الماضية في كل مرة تخرج فيها جموع المحتجين إلى الشوارع للتظاهر، وقرروا الانخراط مجدداً في مفاوضات بشأن تلك الوثيقة. والدرس الذي نخرج به من كل ذلك هو أن النظام السياسي المصري يمر بمرحلة انتقالية، وأن تلك المرحلة تعد مرتبكة، وتتضمن قدراً كبيراً من الأخذ والعطاء بين اللاعبين الرئيسيين وهما المجلس الأعلى للقوات المسلحة -وهو سلطة مؤقتة - من جهة وجموع المتظاهرين في الشوارع، وهؤلاء ليس لهم قيادة حتى الآن من جهة أخرى. ولا شك أن الأحزاب والمرشحين للرئاسة ووسائل الإعلام تلعب أدواراً في تلك العملية هي الأخرى، ولكن المؤكد هو أن ما يضع الجنرالات أعينهم عليه على وجه التحديد ويهتمون به أكثر من غيره، هو ما يحدث في ميدان التحرير. ومن المنتظر أن تستمر هذه العملية إلى أن تنتهي مصر من تأسيس مؤسسات أكثر تقليدية ورسوخاً في العام الجديد. ولكن يبقى السؤال مع ذلك: ما هو كم السلطة التي ستظل بحوزة المؤسسة العسكرية بمجرد إكمال هذه العملية؟ ويليام رو دبلوماسي أميركي سابق متخصص في شؤون الشرق الأوسط