قبل ثمانية أشهر، غادر الناس منطقة "تشيكو هارلان" على عجل حيث اضطرت العائلات لترك منازلها بسرعة من دون إغلاق الأبواب الأمامية، تاركة وراءها زجاجات المشروبات نصف ممتلئة على موائد الطعام، والأحذية متناثرة في مدخل المنزل. قفزوا إلى سياراتهم من دون أن يأخذوا معهم حيواناتهم الأليفة، وتركوا الأبقار مقيدة على المنصات المخصصة لاستخراج الحليب. اليوم، الأراضي خالية ومهجورة وكأنها جمدت في الزمن، لم تطأها رجل تقريباً منذ كارثة الحادي عشر من مارس التي خلفت أرضاً بوراً لا تصلح لشيء في دائرة 12 ميلًا من الأراضي الزراعية التي تحيط بمحطة فوكوشيما النووية. نحو 78 ألف نسمة من السكان كانوا يعيشون هنا، ولم يُسمح إلا لعدد قليل منهم بالعودة. بيوت العنكبوت انتشرت على واجهات المتاجر، والفطر نما من أرضيات غرفة الجلوس، والأعشاب ابتلعت السكك الحديدية. وبعض الطرق تصدعت جراء الزلزال وخرجت منها نتوءات وصارت أشبه بحقول الأرز. وبالقرب من الساحل، مازالت القوارب التي جرفها "تسونامي" إلى اليابسة جاثمة على الطريق الرئيسية. الحيوانات وحدها تُركت في المنطقة، وصورتها ليست جميلة. فالخنازير الجائعة أكلت بعضها بعضاً، والقطط والكلاب تبحث عن الطعام. وفي إحدى المزارع - مزرعة عائلة توتشيموتو - تتدلى جماجم 20 بقرة كانت مقيدة على المنصات المخصصة لاستخراج الحليب. آلاف من عمال فوكوشيما، الذين يرتدون ملابس خاصة واقية بيضاء، يمرون يومياً عبر البوابات الأمامية للمحطة، موقع أسوأ كارثة نووية منذ تشيرنوبل. ولكن في ما عدا المحطة، وعلى مسافة 12 ميلاً على الأقل في أي اتجاه، مازالت الحكومة اليابانية تحافظ على منطقة محظور على الجمهور دخولها، حيث تغلق فرق الشرطة كل الطرق والمنافذ المؤدية إليها إذ لا يسمح لأي أحد العيش هناك - وهي حالة يمكن أن تستمر لعقود. وإذا كانت محطة تشيرنوبل تقدم أي دروس، فإن الأراضي المحيطة بمنشأة فوكوشيما ستصبح يوماً ما منطقة وحشية، حيث سيتم في النهاية ربما هدم البلدات بالجرافات ودفنها. وربما بعد عقود من اليوم، ستجعل اليابان من المنطقة وجهة للسياح الباحثين عن المغامرة، أو ستستعمل المنطقة كمحمية للحياة البرية. غير أنه في الوقت الراهن مازالت المنطقة المحيطة بالمحطة النووية تحتفظ بتاريخ السكان الذين أُمروا بمغادرتها. المنطقة خطرة لفترة طويلة، ذلك أن ثمة العديد من المواقع - التي يبعد بعضها بعشرة أميال عن المحطة - حيث مستويات الإشعاع فيها تتجاوز تلك المسجلة في البوابة الرئيسية للمحطة. ولكن إذا أمضيت يوماً كاملاً في التجول بواسطة مركبة عبر كل أجزاء المنطقة المحظورة، فإن الأخطار قليلة ومتدنية، حيث يشبه التعرضُ الإجمالي ذاك الناتج عن 12 ساعة من السفر بالطائرة أو صورتين لمنطقة الصدر بالأشعة السينية. عمال الطوارئ فقط وبعض السكان المختارين الذين يتوفرون على تراخيص خاصة يُسمح لهم بدخول المنطقة، وفقط لرحلات قصيرة. وعندما دخل مراسلان لصحيفة "واشنطن بوست" المنطقة برفقة مزارع محلي، كانت ثمة سيارات قليلة تسير على الطرق الرئيسية. المزارع، واسمه "ماسامي هوشيزاوا"، قال إن حوالي ألف بقرة فقط، من أصل الـ3500 بقرة التي كانت في المنطقة، مازالت على قيد الحياة. وأثناء الرحلة، لمح "هوشيزاوا" بعض البقرات البُنيات تحمل على آذانها بطاقة ترقيم صفراء فقال: "هذه بعض من بقراتي على الأرجح". الكثيرون ممن كانوا يعيشون ذات يوم بالقرب من المحطة النووية يشعرون بأنهم انتُزعوا من حيواتهم السابقة. ولكن حالة "يوشيزاوا" تظهر عذاباً من نوع آخر. فهو يقوم بزيارات يومية إلى مزرعته الملوثة بالإشعاعات لأنه يفضل تذكيراً خطيراً بحياته القديمة على ألا يكون هناك أي تذكير. قبل الحادث النووي، كان "يوشيزاوا" يعمل في مزرعة "إم" التي تبلغ مساحتها 30 هكتاراً. ومن الحظيرة حيث يربي "يوشيزاوا" قطيعه يستطيع المرء رؤية مداخن محطة فوكوشيما التي لا تبعد سوى تسعة أميال. يوشيزاوا وزملاؤه كانوا يربون الأبقار للحمها المعروف بجودته العالية، حيث يبيعونها لتجار الجملة بـ13 ألف دولار للرأس. غير أنه بعد خمسة أيام من الانهيارات والانفجارات، انتشر "السيسيوم" ونظائر مشعة أخرى عبر المنطقة الريفية ولم يعد للقطيع أية قيمة، وفقد رئيس المزرعة، "جون موراتا"، نتيجة لذلك ما قيمته 6?5 مليون دولار من الممتلكات. وفي الثامن عشر من مارس الماضي، قال "موراتا" للموظفين إن هذه هي النهاية، ثم ذهب إلى الحظيرة وفتح بوابتها، لتخرج نحو 230 بقرة إلى العراء. معظم الموظفين لم يعودوا إلى المنطقة أبداً. ولكن "يوشيزاوا"، الذي لا زوجة له ولا أطفال، أمضى الأسبوع التالي يفكر في عمل ما، ووجد نفسه متعاطفاً على نحو جديد مع الحيوانات التي كان يبيعها ذات يوم للحمها – بعد أن شعر بأنه بدأ يفقد قيمته أيضاً. وهكذا، تمسك بالمزرعة. وحصل على ترخيص من صديق له في مكتب العمدة، مما أتاح له إمكانية دخول المنطقة المحظورة من دون قيود. واشترى جهازاً لقياس درجة الإشعاع، وقام بتثبيته بواسطة مشبك على النافذة الأمامية لسيارته حيث يقوم - و"موراتا" أيضاً في كثير من الأحيان - بزيارات يومية إلى المزرعة لإطعام القطيع بتبن ملوث بالإشعاعات. بعض البقرات أصبحت أشبه بحيوانات برية، ولكن معظمها لا يجفل ويبقى في مكانه. في مايو الماضي، كانت الحكومة اليابانية قد أوصت المزارعين بإعدام حيواناتهم، كما حظرت على المزارعين جلب العلف إلى المنطقة المحظورة. وقال متحدث باسم الحكومة: "إذا لم يجد القطيع ما يأكله، فإنه سيخور ويهزل، ثم ينفق في الأخير"، مضيفاً "أدركُ أننا نرغم المزارعين على اتخاذ قرار صعب جداً، ولكننا لا نرغب أن يدخل المزارعون المنطقة المحظورة لأنها منطقة غير آمنة". تشيكو هارلان – نامي، اليابان ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس"