يتعرض عدد من الدول العربية الآن لأزمات الصراع السياسي الذي يبدو على سطحه فقط صراعاً لتغيير الحكم أو السلطة، أو حتى مجرد تغيير الرؤساء. وإن كان ذلك مازال بارزاً في حالات مثل سوريا أو اليمن، فإنه مضى كذلك على نحو ما في بلدان مثل تونس، والأبرز في مصر، لكن التطورات الداخلية في هذه البلدان، بل وفي غيرها مما تزعم هدوء ساحاتها النسبي تشير إلى أن المعركة السياسية هذه ذات بذور أعمق مما يبدو عليه السطح الهادر نفسه. وهنا تبدو المشاكل الاجتماعية، أكبر من مجرد مشكلات الظلم السياسي أو تدهور الوضع الطبقى العام، والذي تنفعل من أجله بالطبع أوسع الجماهير. ويقول البعض إنهم فوجئوا بمسائل جذرية خطيرة مؤخراً حول "الهويات" الضمنية أو المعلنة، وحول قطاعات اجتماعية كانت محدودة الأثر كما تبدو في التحليل التبسيطىي الذي كان سائداً لفترة، بالإضافة لمجمل الحقوق العامة المكتوبة، أو المجهضة. وبما إن الثورات العربية الأخيرة خلال عام 2011 قد فجرت أسئلة كبيرة حول كثير من هذه المسائل، فإنه يصبح جديراً بالنظر أن تنتبه الثقافة السياسية العربية إلى أن العالم من حولها غنى بمثل هذه المشاكل، وأن المفاجأة هي غياب الوعي العربي، وليس في غياب المعالجات المتنوعة في العالم بل إن الانتباه الأوجب في تقديري، هو لكثير من القضايا والقوى المحلية التي يمكن أن تظل تغلي، حتى تفاجئنا بالانفجار، حين يتفاعل المجتمع، ككائن طبيعي ومن قبل بشر يتطلعون لحياة أفضل. والملفت هنا، أننا تعودنا أن يقودنا ما يسمى بالإعلام العالمي- أو المغرض!- إلى مثل هذه المشاكل المفاجئة، أو يكون قد قادنا لبؤر، وبدا متغافلًا عن أخرى، فنظل بدورنا غائبين عن هذه الأخرى. والمفاجآت من دون إطالة واضحة أمامنا، مثل الأمازيغية في ليبيا مثلًا، أو حتى السلفية والبهائية في مصر، ناهيك عن "القاعدة" في الصومال، هذه الأمثلة لا يمكن تصورها إلى جانب الإعلام الكثيف عن المسائل القبطية والكردية والبربرية السابق شغل العالم بها، وهي موضع القلق الدائم. وإذا ذهبنا لأبعد من ذلك في مصادر القلق الذى تحدثه الإعلاميات وضعف المعالجة الثقافية السياسية، سنرى أننا نخضع لتضليل سهل، رغم سهولة توافر المعارف بالآخر. والمثل في أحوال مصر هو الأقرب بحكم حقي في معالجته. لقد وضعت قوى "الصراع الاجتماعي" مبكراً حالة مصر على سطح الحدث منذ سنوات، "حركات احتجاجية"، "نقابات الضرائب"، "عمال المحلة"، حركات "كفاية" و"6 أبريل"، "تفاعل الحقوقيين والاشتراكيين".. الخ ومعنى ذلك أن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. كانت مطروحة جيداً، ولم يكن ثمة مبرر لتجاهل حقوق أخرى تدور حول أعمال التمييز، والتغييب؟ ودراسة كافة الحقوق والقوى عموماً، لكن ذلك حدث، وكانت الانفجارات التي تبدو مفاجئة ولنقل إنها كامنة، وأصبحت تتخذ عناوين تبدو مهددة، وهي المألوفة في حياتنا مثل "الشرع" والشريعة، وحق المصري الغائب، وحقوق الأطراف الجغرافية أو الاقتصادية.... وقد تأملت طويلاً في أحوال النضال الاجتماعي والسياسي لشعوب يشيع العرب عنها أنها محدودة الخبرة أو قل إنها "ليست على البال"، فاكتشفت أن لها أصالة غابت عن الوجدان السياسي العربي، فغبنا عن أنفسنا، بينما تمضى هذه الدول لآفاق متجددة أتوقع أن نتأملها بجدية أكبر، ولنسمي من بين اهتماماتها المبكرة عنواناً محدداً هو "لائحة الحقوق" Bill of Rights. ما لاحظته هو أنه حينما تعاني الأمة الأفريقية عند بداية استقلالها- أو انطلاقها- مشكلة الانقسام الاجتماعي، فإنها تسارع إلى تضمين مشروع دستورها المؤسسي قسماً خاصاً باسم "لائحة الحقوق" يتضمن خلاصة لما دار حوله الجدل السياسىي أو الصراع الاجتماعي في هذه الأمة أو تلك قبل الوصول لنقطة الانطلاق، وأعنى أن تستقر عليه هيئات العمل السياسي عند تشكيل الجمعية الدستورية السابقة على البرلمان الأول الذي سيمضي بهذا الدستور. ولم أقرأ عن مبادئ فوقية أو حتى سابقة، ولكنني أقرأ عن توافق وطني مسبق، يصيغه قانونيون مسيسون في النهاية، وتعتمده تكوينات تأسيسية بمسميات مختلفة، لترسي في ضوئه وعلى أساسه انتخابات وسياسات ... الخ. وقد تم ذلك في جماعات متعددة الأعراق أو القبائل أو المطالب الاجتماعية، سواء تاريخية أو مما ورثتها السلطات الاستعمارية لهذه الأمم عند الاستقلال، فتصبح "لائحة الحقوق" هي أهم مواضع الجدل لأن بقية عناصر النظام السياسي يتم الاتفاق عليها وفق موروث الحداثة المستقرة بالأساس، وقد اخترت من هذه الدول ما بدا لي أنه كان موضع جدل وصراع معمق، وذلك في نيجيريا، وجنوب أفريقيا، مبكراً، في الستينيات بالأولى، وفي التسعينيات بالثانية أواخر القرن الماضي. في نيجيريا اضطرهم تكرار الانقلابات العسكرية التي تدعي مواجهتها للفساد والإقليمية، أن يضعوا لائحة الحقوق مبكراً مع عودة الحكم المدني (1999) لتقر "الحريات المدنية" والسياسية، وتحددها، وصولاً لحقوق مواطنة جذرية مثل "التحرر من التمييز" والحق "في التحقيق القضائي العادل" وذلك خوفاً من الأساليب غير المباشرة التي تهدر هذه الحقوق، ثم مبدأ "العلمانية"- هكذا مباشرة- بمواد خاصة تنص على "منع الدولة من تبني دين معين". تقديراً للتنوع الديني في نيجيريا، رغم أغلبية المسلمين وأن ثمة ولايات مسلمة تحصل دائماً على أغلبية الحكم وتقر الشريعة. وفي جنوب أفريقيا، احتفل "مانديلا" بإعلان الدولة "قوس قزح" متعددة الألوان والأعراق والأديان. وأعلنت النخبة التخلص من أشكال التمييز العنصري والعرقي الذي كان أحد شعاراته "الوطنية المسيحية" وجرى تخصيص فصل خاص في الدستور الجديد (1994) هو الفصل الثالث حول "المواطنة وحقوق الإنسان" يعتبر من أطول الفصول التي صيغت أولاً خارج اللجنة الدستورية بعد مفاوضات اجتماعية وسياسية مكثفة وغاية في الدقة لتبدأ بتعريف الحقوق وفق دراسة لأحد مراكز البحوث، وانتهاء بنصوصها في الدستور. ويلفت النظر هنا إشارات اللائحة إلى "التصدى لسوء تصرف الحكومة" و"للأغلبية الساحقة" "وتوازن الحقوق أمام بعضها الآخر (مثل كرامة المواطن وحرية تعبير الآخر!)، أو حق الفرد في الاعتراض بنفسه أو من ينوب عنه، وحق فئة أو طبقة في الاعتراض على القوانين، وحق الحماية إزاء جماعة أخرى. ما يستدعي بحث مجتمعاتنا فعلاً هو انتباهها للتنوع الحديث في قائمة أو لائحة الحقوق بعد أن انتقلت المجتمعات من الحقوق الأولية أو البدائية عن الأقليات أو حتى حرية التدين، وحقوق المرأة.. الخ. فالمجتمعات تناقش الآن حقوق الأطفال والمعوقين، كما تناقش الحق في التنمية. وهي تناقش الحق في الرفاه الاجتماعي تحت بند "الحق في الاستمتاع بالوقت". وهي تعطي مجمل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية قوة دستورية، بحكم تصديقها على المواثيق الدولية، وبقدر ما تقتنع بحق الاقتراع الفردي في انتخابات عامة لا يعلم مصيرها الكثيرون. والأهم الآن هو وضع هذه الحقوق الجديدة "فوق الدستور" فعلاً (مع الاعتذار لبعض الأخوة) حينما تضع لائحة الحقوق ضمن الدستور وليس مجرد وثيقة مبادئ استشارية منفصلة. ولكي يتحقق ذلك فإنه يلزمه تحقيق مجالس ديمقراطية فعلاً.. بل ومجتمعات ديمقراطية بحق أو تنوى أن تكون ديمقراطية بحق! ولذا انتبهت مجتمعات أفريقية عديدة إلى صيغة "لائحة الحقوق" وهي الأضمن بقدر ما تحميها جماهير صاعدة راغبة حقاً في حياة ديمقراطية. هل يمكن أن ننبه إلي أن اتجاه معظم الدراسات مؤخراً هو إلى العناية بمدى مشاركة الحركات الاجتماعية، والقوى النقابية الحديثة أو المستقرة، في صياغة المصائر بدلاً من طمسها ضمن القول "بالقوى السياسية" أو مجرد الإشارة إلى المعنى الغامض للمجتمع المدني.. الخ؟. هل يراجع المتحدثون عن لوائح الحقوق الأساسية معنى "القوى الفاعلة" الجديرة بمناقشة هذه الحقوق، لتأتي لائحة الحقوق معبرة بحق عن أصحاب الحقوق؟