في الدراسات العلمية تبرز ثلاثة احتمالات لضبط الحدث نظرياً ومنهجياً، أي لتحويله إلى "مادة بحثية معرفية". أما الاحتمال الأول فيظهر في مرحلة استكشاف حركة الواقع العيني المشخص وإلى أين هي سائرة، في حين يُفصح الاحتمال الثاني عن نفسه في إرهاصات تكوّن الجديد. ويبقى الاحتمال الثاني في تبين إشارات تُفضي إلى المرحلة المستقبلية. تلك احتمالات لا بد أن تنكبّ على فحصها مجموعات عمل قائمة على التكامل، ومن ضمنها تبادل النتائج بين الباحثين المعنيين، وضمن قراءة تاريخية وتحليلية نقدية. في ضوء ذلك يمكن العودة ثلاثة عقود إلى الوراء، كي نتعرف إلى بنية الفئة أو الفئات الشبابية في العالم العربي (ومن ضمنها سوريا). ولأننا لا نملك المادة البحثية السابقة المعنية حول تلك الفئة بما يكفي نظل في حدود ما هو متوافر. فهذه الفئة بدأت توضح عن وجودها وتوجهاتها في سوريا(ونأخذ هذه الأخيرة نموذجاً) بكيفية واعدة: خروج البلد من مرحلة الاستعمار الفرنسي، ليبدأ في لملمة المجتمع السوري في ضوء مشروع يَعدُ باستحقاقات جديدة وبقوى بشرية، خرجت تواً من مواجهة الخارج وحققت انتصاراً عمومياً عليه، في حقول الاقتصاد والسياسة والثقافة والقضاء والتعليم وغيره. وينبغي التنويه بأن الطبقة (أو الفئات الوسطى) كان لها - مع غيرها من الطبقة البرجوازية العليا التي شاركت في تحقيق الاستقلال الوطني، ومن القاع الطبقي السوري - دور مهم في ضبط الحراك الجديد في البلد باتجاه مشروع وطني ديموقراطي مؤسس على أيديولوجيا وطنية تنويرية وأميل ما تكون إلى حالات العيش المشترك بين كل طوائف وإثنيات وقوميات المجتمع السوري الداخل في فضاء تاريخي جديد. لقد حملت الفئات الوسطى في سوريا، في حينه، سمتين اثنتين كبيرتين، هما كونها ميسورة اقتصادياً مادياً، ومستنيرة عقلياً، إضافة إلى أنها تكونت ضمن أفق سياسي وطني، وفي هذه البيئة هي الحاضنة للفئة الشبابية، وثمة ملاحظة ذات أهمية منهجية خاصة، هي أنه في مجتمع الاستقلال السوري، انطلقت حركات شبابية متنوعة من القاع إلى القمة مروراً بالتوسطات، وكان من عناصر التأسيس لها أنها راحت تتكون في ظل تلك الحاضنة، المتنوعة المرجعيات السوسيوثقافية، وبروح الاستقلال والدعوة إلى البناء الجديد، ونود الإضافة إلى ما أتينا عليه بأن الفئات الشبابية السورية راحت تتجه، بنهم، نحو الثقافة العقلانية السورية والعربية وكذلك الأجنبية، محفزة بذلك على نشوء حركة ترجمة واسعة ونشطة للثقافات الأوروبية من عصور الأنوار والنهضة والتنوير والتحرير. وهذا ما طبع مرحلة ما بعد الاستقلال بطابعه حتى نشوء الوحدة بين سوريا ومصر، وهذه الأخيرة انتهت بكيفية مأساوية، على أساس أن الشرط الوحيد الذي وُضع عليها، تمثل في إلغاء التعددية الحزبية والسياسية والثقافية، أي في إنهاء ما كان عليه أن يحمي الوحدة العتيدة، ويؤسس لمشروع ثقافي حضاري جديد. وبتعبير آخر، تكون الوضع الشبابي هناك منطلقاً من البنية المجتمعية، بكل عناصرها. ومع أن الفئة الشبابية بدأت منذ عام 1963 تدخل في نفور المرجعية الواحدة الوحيدة في السياسة وفي ظل نظام أمني صارم، حيث إنها حوصرت بكل ما يحول دون التعبير التعددي والشمولي - في آن واحد - عن حركة المجتمع السوري، فقد مرت (وهذا ما رحنا الآن نتلمسه) بحالات من التفاعل التاريخي والطبقي والفئوي، هو الذي عرّفنا بأنه كان وما زال تعبيراً عن حركتين اثنتين: التراكم التاريخي المتوافر في البنية المغيبة، وشمولية التعبير عن المجتمع السوري في بحثه عن مشروع للنهضة والتنوير والديموقراطية، وهذا يعني أن الشباب هنا قد يمثلون الحامل الجديد للتغيير.