ربما أصبح من شبه المؤكد أن الأحزاب الرئيسية الثلاثة الفائزة بالانتخابات التونسية الأخيرة، قد حسمت مبدئياً مفاوضاتها بشأن توزيع الرئاسات الثلاث، ووفقاً للاتفاق فستتولى حركة "النهضة" ممثلة بأمينها العام حمادي الجبالي رئاسة الحكومة، فيما تُسند رئاسة المجلس التأسيسي إلى مصطفى بن جعفر رئيس حزب "التكتل من أجل العمل والحريات"، أما منصب رئيس الجمهورية فسيكون للمنصف المرزوقي زعيم "حزب المؤتمر من أجل الجمهورية". وقد كان المرزوقي، السياسي والمفكر والطبيب والمناضل الحقوقي، أول شخصية تعلن ترشحها لانتخابات الرئاسة التونسية عقب انفراط عقد نظام بن علي. ثم عاد من المنفى وأسس "حزب المؤتمر من أجل الجمهورية"، وخاض انتخابات المجلس التأسيسي ليحتل المرتبة الثالثة، متفوقاً على أحزاب ليبرالية ويسارية طالما صورت نفسها صاحبة الأغلبية في الشارع التونسي. والمرزوقي الذي ظل في السنوات الأخيرة يدعو شعبه للعصيان المدني ضد بن علي، وتوقع "الربيع العربي" قبل تفجره بسنوات، سياسي صلب ومفكر عنيد... عرف القمع والاضطهاد اللذين لاحقاه وعائلته مبكراً. فوالده محمد البدوي المرزوقي، من مدينة "دوز"، والمنحدر من قبيلة بني سليم العربية، كان مناضلا سياسياً في الحزب الدستوري، وكان قريباً من الزعيم صالح بن يوسف، لذلك لم يجد بداً، عند انتصار الجناح البورقيبي، من الفرار إلى المغرب حيث عاش هناك بقية حياته. أما المنصف فولد في مدينة "قرنبالية" بولاية نابل عام 1945، وعانى في طفولته: "والد بين سجن ومنفى، ونحن نتخبط في فقر مدقع". وعشية الاستقلال عام 1956، اقتيد الفتى الصغير إلى مركز الشرطة لاستجوابه حول مكان وجود والده. لكن في السنة التالية حدث "التحول الأخطر" في حياته، وهو توجيهه إلى المدرسة الصادقية، مدرسة النخبة في تونس المعاصرة. ثم في عام 1961 اتجه إلى المغرب مع عائلته للالتحاق بوالده في طنجة، وهناك عاش حياة مرفهة نسبياً ودرس في "الليسه دو فرانس"، مما أهله للالتحاق بكلية الطب في جامعة ستراسبورج بمنحة من الحكومة الفرنسية عام 1964. لكن "كيف يمكن لشاب يتوهج حماساً أن يبتعد عن السياسة، والقنابل تتساقط على فيتنام، والمقاومة الفلسطينية في بدايتها، والثورة على أبواب الانفجار في فرنسا ذاتها، وبلدي يرزح تحت نير الخصم الوراثي الذي حرمني من العيش بكرامة في وطني". إلا أن المرزوقي قرر أن يضع مؤقتاً كل حماسه بين قوسين ليركز على الدراسة. ورغم ذلك فقد عاوده "شيطان الكتابة" ليشارك بنص ويفوز في مسابقة عالمية للشبان بمناسبة مئوية المهاتما غاندي، فسافر ضيفاً على الحكومة الهندية مدة شهر كامل. لم يتراجع المرزوقي، المأخوذ بدراسة الأدب والفكر والفلسفة، عن قراره، فنال الدكتوراه في الطب عام 1975، ونجح في مسابقة الدخول إلى إقامة المستشفيات الجامعية، واستطاع خلال خمس سنوات إكمال اختصاصات طب الأعصاب والطب الباطني والطب الوقائي، ليصبح أستاذاً مساعداً في كلية طب ستراسبورغ. وخلال تلك الفترة التي يعتبرها المرزوقي أخصب سنوات حياته، سيغير نظرته للغرب كي يراه على تعدديته: غرب استعماري عنصري، وغرب يكره الغرب الاستعماري، والغرب الحضاري، وغرب الإنسان العادي. كما سيتخلى عن كثير من جموحه العروبي. وبعد 15 عاماً من الدراسة والعمل في فرنسا، عاد المرزوقي إلى تونس عام 1979، لتبدأ مرحلة سياسية وفكرية أخرى في حياته، وذلك عبر ثلاث تجارب: عمله كأستاذ لطب الأعصاب في كلية طب سوسة، وإدارته مشروع الطب الجماعي، ورئاسته الرابطة التونسية لحقوق الإنسان. يقول المرزوقي: "الغريب في الأمر إني لم أفهم قيمة الديمقراطية ولم أعتنقها إلا عند رجوعي إلى تونس". ثم يضيف: "بدا لي واضحاً أن رداءة العمل غير مرتبطة بخلل وراثي... وإنما يتعلق المرض بالمعطى الثقافي الناتج بدوره عن تنظيم سياسي متخلف يضع الشخص غير المناسب في المكان غير المناسب، ويكافئ الموالي وليس الكفء، يحارب العقل المجدد، ويكبل الفكر، ويشيع الإحباط ثم التسيب واللامبالاة". خلال تلك الفترة أخذ المرزوقي يتعرض للمضايقات ويتردد على المحاكم، كما صودر العديد من كتبه.لذلك فقد تلقى انقلاب بن علي عام 1986 بالترحيب. لكن سرعان ما عاد المرزوقي للتردد على المحاكم بسبب مقالاته في جريدة "الرأي"، وعقب انتخابه رئيساً للرابطة التونسية لحقوق الإنسان عام 1989. فتم طرده من الكلية عام 1992، ومُنع من إجراء أي بحث علمي، ثم بداية من عام 1993، وبعد "الانقلاب الذي دبرته السلطة داخل الرابطة"، بدأ يتردد على السجن بالتناوب مع أخيه محمد. وبعد ترشحه للرئاسة عام 1994 دخل السجن وأمضى أربعة أشهر في زنزانة انفرادية لم يغادرها إلا بوساطة من مانديلا، لكنه منع من السفر ومن الهاتف، وطرد من المستشفى الجامعي، ومن مصحات الضمان الاجتماعي، ومنعت جميع كتبه. وخلال سنوات العزلة (1994 -1997) ألّف المرزوقي كتابين مهمين: "الاستقلال الذاتي" و"الإنسان الحرام"، لينضافا إلى حوالي ثلاثين مؤلفاً كتبها باللغتين العربية والفرنسية، كما بدأ كتابة سيرته الذاتية "الرحلة". ورغم العزلة، فقد قام في أواخر 1997، مع ثلة من رفاقه، بتأسيس "المجلس الوطني للحريات"، وفي نفس الآونة تم اختياره أول رئيس لـ"اللجنة العربية لحقوق الإنسان". وفي عام 2001 غادر إلى المنفى ليعمل محاضراً في جامعة باريس، حيث ظل يعارض النظام ويحرض على إسقاطه، إلى أن غادر بن علي هارباً من تونس فعاد إليها المرزوقي. والسؤال الآن: كيف سيرسم المرزوقي منهجاً للتوافق مع "النهضة" على اختلاف المدارس الفكرية؟ يعتبر المرزوقي نفسه أقرب للغنوشي من أي علماني "متفرنس" يحتقر شعبه ولغته ودينه، ويقول: "لقد جئنا من اتجاهين مختلفين وتلاقينا في الوسط، على احترامه للديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، وتشبثي بقيم العروبة والإسلام". وإذا كان الجبالي، رئيس الحكومة المنتظر تكليفه، هو أحد سجناء "النهضة" الذين تضامن معهم المرزوقي بقوة حين كان رئيساً للرابطة، فإن بن جعفر هو أحد شركائه الأساسيين في الرابطة سابقاً. هذا علاوة على أن منصب الرئاسة في تركيبة الحكم التي تبلورت عقب ثورة 14 يناير، هو منصب بروتوكولي إلى حد كبير، ومن ثم فلن تكون صلاحياته المحدودة محل منازعة من أحد، إلا أنه مع ذلك ربما يمثل في نظر المرزوقي جائزة مناسبة لنضاله الطويل ضد سياسات مستبديْن اثنين جلسا قبله في ذات الكرسي. محمد ولد المنى