"إن سقوط نظام بشار ستترتب عليه كارثة تقضي على إسرائيل" لأن ذلك "سيسمح بقيام تكتل إسلامي كبير في مصر والأردن وسوريا وهذا سيشكل خطراً وجوديّاً على إسرائيل". هذه تصريحات إضافية، لمن يريد الاستزادة، تعبر عن القلق الإسرائيلي الشديد على نظام الأسد، وهذه المرة تأتي من جلعاد رئيس الهيئة الأمنية والسياسية في وزارة الدفاع الإسرائيلية. تلتقي التخوفات الإسرائيلية هذه مع الرسائل المتواصلة المباشرة، وغير المباشرة، التي يرسلها النظام من أنه "حجر أساس الاستقرار" في المنطقة، وأن سقوطه لن يقود إلا إلى الانفجار. وهذه كلها ترميزات لا تعني سوى شيء واحد هو أن استمرار النظام يعني "استقرار إسرائيل"، وهو الأمر الحيوي والعصب الحساس الذي يدرك النظام أن الغرب يستجيب وينتفض له، وذاك ما أدركه سادة النظام على مدار عقود طويلة. ونتذكر جميعاً أن رامي مخلوف أحد أركان النظام كان قد ضاق ذرعاً بالتلميحات غير المباشرة المتوالي صدورها من دمشق، والتي "على الغرب أن يفهمها"، في ما يتعلق بمستقبل إسرائيل وعلاقته بالوضع في سوريا، ففضل القول المباشر والواضح وأطلق تصريحه الشهير في صحيفة "نيويورك تايمز" في شهر مايو الماضي بأنه لن يكون هناك استقرار في إسرائيل ما لم يكن هناك استقرار في سوريا. والقلق الإسرائيلي على نظام بشار الأسد والخوف عليه يضع إسرائيل، وللمفارقة الكبيرة، في نفس مربع "محور الممانعة" الذي يساند النظام ولا يريد سقوطه. كيف إذن تلتقي مصلحة إسرائيل مع مصلحة دول ومنظمات "محور الممانعة" القلقة هي الأخرى من سقوط النظام والتي تدافع عنه ومعها عديد من منسوبي الإيديولوجيات المتنوعة؟ هذا السؤال اللغز نتركه لأنصار النظام والمدافعين عنه ليل نهار ليتأملوه ويقدموا إجاباتهم عليه. ولكن السؤال الأكثر تعقيداً، والجالب للتخوف الحقيقي، يدور حول الحجم الذي يمكن أن يلعبه عامل "الخشية على استقرار إسرائيل" في معادلة الموقف الدولي المرتبك إزاء سوريا، وفي ما إن كان هذا العامل سيلعب دوراً متزايداً في حسم مسألة التدخل الخارجي ويفاقم من تلكؤ الموقف الغربي في اتخاذ خطوات ضغط حقيقية ضد النظام. تخوف الغرب من أنظمة ما بعد الثورات واحتمالات سيطرة الإسلاميين عليها لا يحتاج إلى نقاش، فهو واضح ومُعبر عنه بشكل يكاد يكون يوميّاً. ومن غير المُستبعد أن يتزاوج هذا التخوف المتصاعد مع تخوف آخر يتصاعد موازيّاً له وخاص بمستقبل إسرائيل واستقرارها وأمنها. على خلفية حاصل جمع هذين التخوفين يمكن أن نقرأ كثيراً من التردد الغربي والكثير من التصريحات التي تقول إن سوريا ليست ليبيا. وربما يرد في هذا السياق انتقاد أردوغان للدول الغربية بسبب مواقفها المتراخية إزاء سوريا، ومقارنة هذا التراخي مع التشدد والحماس اللذين أبدتهما تلك الدول في الحالة الليبية، متهكماً بأن هذا التراخي مرده عدم وجود نفط يثير شهية الغربيين كما هو الأمر في ليبيا. صحيح أن هناك رغبة غربية وعالمية في تغيير النظام السوري وهي رغبة واضحة، ولكن التخوف الحقيقي هو من أن يتفاقم أثر العامل الإسرائيلي بحيث يُصار إلى ترتيب حل وسط يحافظ فيه النظام القائم على وجوده، وبالتالي استقرار إسرائيل، على حساب الشعب الثائر ومطالبه. وسيقدم النظام كل تنازل ممكن أن يخطر على البال من أجل بقائه، والبوابة الإسرائيلية هي أقرب وأسهل البوابات لذلك وأكثرها نفعاً. وليست في هذا التقدير أية مبالغة مجافية للسلوك السياسي المعهود عن نظام البعث في سوريا، بل تدعمه شواهد عديدة على مدار العقود الأربعة الماضية تؤكد على أن حجر الزاوية في سياسة النظام هي اللعب على مسألة "الصمود والتصدي" لفظيّاً وخطابيّاً، بينما واقع الأمر لا يتعدى التسليم لإسرائيل بما تريد. ومن دون مسألة "الصمود والتصدي" يفقد النظام كل أنواع الشرعية. ولذلك كان حريصاً على بقاء حالة "اللاحرب واللا سلم" مع إسرائيل منذ حرب أكتوبر 1973. وفي الوقت الذي لم يكن فيه هناك أي جهد حقيقي لتحرير الجولان المحتل، فإن تصريف ذلك الصمود اللفظي كان يتم من خلال تخريب لبنان جملة وتفصيلاً. فهناك ادعى النظام أنه يساند منظمات المقاومة الفلسطينية، وهي التي حاصرها في تل الزعتر وحاربها، ثم تركها لقمة سائغة أمام الاجتياح الإسرائيلي عام 1982. وفي تلك السنوات وعلى رغم الاحتلال الفعلي للبنان من قبل الجيش السوري إلا أن ذلك الجيش اختفى تماماً من لبنان عندما دخل الإسرائيليون وتركه ومن فيه يواجهون مصيرهم، بل وقف جيش الصمود البعثي يراقب احتلال أول عاصمة عربية، بيروت، من دون أن يطلق رصاصة على المحتلين. وخلال عقود الاحتلال السوري للبنان والاحتلال الإسرائيلي لجنوبه كانت هناك معادلة "الخط الأحمر" التي رسمها الإسرائيليون للوجود السوري هناك واحترمها النظام ولم يمسها على الإطلاق. بل إن نوعية سلاح الجيش السوري وكمياته كانت خاضعة لتوافقات ضمنية. وعندما انسحب الإسرائيليون من بيروت عاد الجيش المظفر للظهور، محاصراً الفلسطينيين مرة أخرى، ومشجعاً على الانقسامات فيما بينهم، ثم ليخوص حرباً بشعة ضد المخيمات ما زالت جروحها طازجة في الذاكرة الفلسطينية. وإكسير الحياة لبقاء النظام كان ولا يزال الاعتياش على شعارات الصمود أمام إسرائيل التي كانت راضية عن الأمر الواقع واحترام النظام وخضوعه للخطوط الحمراء التي ترسمها له. وفي هذا الإطار كان بقاء احتلال الجولان ضرورة حياتية للنظام بسبب ما يوفره من مسوغات دائمة لقمع الداخل بدعوى أنه "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، ولأن النظام مشغول في إحداث "التوازن الاستراتيجي" مع إسرائيل. ولنتخيل للحظة لو أن الجولان لم يعد محتلًا، وأنه عاد إلى سوريا حرباً أو سلماً، فماذا يتبقى من شرعية أو مسوغ للنظام؟ ولهذا فإن كثيراً من القراءات التي عملت على تحليل السلوك السوري، حتى في المفاوضات السلمية بين سوريا وإسرائيل، كانت تصل إلى نفس النتيجة وهي أن التصلب السوري قصد دوماً عدم التوصل إلى اتفاق، لأن عودة الجولان وتحريرها سيكشف ظهر النظام ويفقده القضية الأساسية التي من دونها يفقد مبرر وجوده. استقرت إسرائيل وأمنها على تلك المعادلة، ومن المفهوم أن تقلق الآن وبعمق إن تفككت معادلة الاستقرار تلك وسقط النظام الذي يحميها.