بعد وقت قصير على تنصيب أوباما رئيساً للولايات المتحدة، دُعيت إلى مأدبة عشاء بالسفارة اللبنانية في واشنطن أقيمت على شرف "راي لحود". أما المناسبة، فهي تعيين لحود وزيراً للنقل، حيث كانت السفارة فخورة بتعيين حفيد مهاجرين لبنانيين لشغل منصب في إدارة الرئيس. وكانت تلك، من عدة نواح، ليلة خاصة طبعت واشنطن في أوائل 2009. وقتئذ، كانت البلاد في صدمة، حيث كانت تواجه احتمال انهيار القطاع المالي. وكان الأميركيون يترنحون في وقت كانت فيه منازل الملايين منهم مهددة بالحجز لتخلف أصحابها عن تسديد أقساط الرهون، وكانت سوق الأسهم في تراجع كبير، ما عرض صناديق المعاشات للخطر، فيما البطالة متفشية وفي ارتفاع. وبدلاً من الاستسلام لليأس أو التشكك، وصل الرئيس المنتخب حديثاً إلى البيت الأبيض بفضل الناخبين الذين استجابوا لوعده بإعادة الأمل وتغيير الثقافة السياسية السائدة في واشنطن. وقد أفعمت ليلتنا في السفارة بأجواء ذلك الأمل في التغيير. ولعل مما يستحق الذكر هنا أن "راي لحود" كان عضواً جمهوريّاً بارزاً في الكونجرس، حيث كان قد ترأس جلسة الكونجرس التي صوتت بشأن محاولة عزل الرئيس الأسبق كلينتون. وقبل أن يُنتخب في الكونجرس، كان قد شغل منصب كبير موظفي زعيم الأقلية الجمهورية حينها بوب مايكل. وفي مجلس النواب، اشتهر لحود كمعتدل وسياسي يسعى إلى مد الجسور وبناء التوافقات. وكان قد أسهم في استضافة حفلات عشاء مع زملاء ديمقراطيين في مسعى إلى تشجيع التفاهم والتعاون بين الحزبين الرئيسيين. وهكذا، يمكن القول إن اختياره لشغل منصب في إدارة الرئيس الجديد حينها لم يكن مفاجئاً، بل كان اعترافاً بالتزامه والتزام الرئيس بتغيير الطريقة التي كانت تشتغل بها واشنطن. والواقع أن تلك الروح كانت معدية جدّاً حينئذ إلى درجة انخرط معها حتى بعض الديمقراطيين والجمهوريين الأكثر تعصباً للحزب واندرجوا في المسار نفسه. وهنا يقفز إلى ذهني حادث وقع في حفل العشاء الذي أقامته السفارة. فخلال التعليقات التي تلت حفل العشاء، وقف عضو جمهوري في الكونجرس من أصل لبناني، هو داريل عيسى، للاحتفال ليس بالوزير الجديد فحسب وإنما بالرئيس الجديد أيضاً، معبراً عن أمله في ألا يقضي أوباما "أربعة أعوام في البيت الأبيض، بل ثمانية". وراح يشرح أنه يقصد "ثمانية" بشكل متعمد على اعتبار أن إعادة الانتخاب لولاية ثانية ستعني أن الرئيس نجح في اجتياز العاصفة بسلام وتغيير حال البلاد، وأن نجاحه مهم بالنسبة للبلاد وهدف ينبغي أن يوحدنا جميعاً. كان هذا هو المزاج السائد تلك الليلة. واليوم، بينما أستمع إلى الخطاب السياسي المتشدد على نحو متزايد الذي يصدر عن الجمهوريين، وجدتني أستحضر روح التعاون تلك، وأتساءل أين ذهبت؟ لقد جاء التحول مبكراً في وقت كان يعلن فيه محرضون، مثل مقدم البرامج الإذاعية "روش ليمبو"، عن أملهم في أن يفشل أوباما كرئيس. ثم تلا ذلك إعلان زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ "ميتش ماكونيل" أن هدفه الأول في الكونجرس هو ضمان أن يُمنى الرئيس بالهزيمة. ثم جاء ميلاد حركة "حفل الشاي" الغاضبة التي جاءت بادعاءات غريبة من قبيل كون أوباما لم يولد في الولايات المتحدة، وتخريفات أخرى لا تقل غرابة تعتبر أن برنامجه لإصلاح الرعاية الصحية يتضمن "مجالس الموت" التي ستحكم على المواطنين كبار السن بموت مبكر! وللأسف، فإن ذلك الشعور العارم بأن هزيمة الرئيس أهم من إنقاذ أميركا نفسها قد آتى أكله اليوم على ما يبدو. فبعد بضعة نجاحات مبكرة أبطأت تدهور الاقتصاد وأنقذت وظائف ومنازل مئات الآلاف من المواطنين الأميركيين، ها هي سياسة التعصب الحزبي تخرب أحدث جهود أوباما الرامية إلى الدفع بالبلاد إلى الأمام. والآن، في وقت تنتقل فيه البلاد إلى موسم انتخابي جديد، لم يزدد الخطاب السياسي إلا استقطاباً وتشدداً، في وقت بات فيه الجمهوريون في الكونجرس والمرشحون لمنصب الرئيس يبدون اهتماماً أقل بحل مشاكل البلاد منهم بتسجيل النقاط عبر الهجمات الهوجاء التي تنم عن التعصب الحزبي. وفي هذا الإطار، يلاحظ المرء أن عرقلة مقترحات إدارة أوباما المتعلقة بالاستثمار في خلق الوظائف مع الشكوى في الوقت نفسه من أن "أوباما لا يخلق وظائف جديدة" قد أضحت بمثابة لازمة تتكرر في الحملة الانتخابية. وفي هذه الأثناء، تطلق ميشيل باكمان تصريحات من قبيل: "سأجعل باراك أوباما رئيساً لولاية واحدة"، هذا في حين يقول زملاؤها ساخرين: "أين ذهب الأمل والتغيير؟". ببساطة، لقد تم نسفهما ورميا من النافذة. ذلك أن تلك الروح التي كان يعكسها عضو الكونجرس عيسى، وكانت تسعى إلى "ما فيه خير البلاد" سرعان ما أفسحت المجال أمام السعي وراء "ما فيه مصلحة حساباتي الحزبية الضيقة" -والدلائل على ذلك واضحة وجلية في كل مكان. فقد أضحت حركة "حفل الشاي" لاعباً مهيمناً في الحزب الجمهوري؛ وأتت حركة "احتلوا وول ستريت" لتعكس مشاعر الغضب والإحباط التي تسود بين الناس في اليسار؛ وعلاوة على ذلك، فإن واشنطن معطلة ولا تشتغل على نحو يبعث على الأمل، حيث الكونجرس غير قادر (أو غير راغب) على الاتفاق مع الديمقراطيين، وفي غضون ذلك يواصل الاقتصاد الترنح والتخبط، ويظل رخاء ملايين الأميركيين في مهب الرياح. إنني لا أملك، والحالة هذه، إلا أن أحن إلى الروح التي كانت سائدة تلك الليلة في السفارة قبل نحو ثلاثة أعوام، وذلك لأنني أخشى أن يكون الشلل الذي يصيب الكونجرس حاليّاً والفكرة القائلة إنه "إذا نجح الرئيس، فإننا قد خسرنا" سيلازماننا لوقت طويل في المستقبل.