في سباق الانتخابات التمهيدية داخل الحزب الجمهوري وما تطغى عليه من مظاهر الحدة والشراسة، يبدو أن المرشح "نيوت جينرجيتش" يواجه أوقاتاً صعبة بسبب هجوم المحافظين، أما الدافع الذي يقف وراء مشاكل جينجريتش مع المحافظين فيكمن في مواقفه القديمة بشأن الاحتباس الحراري ودفاعه في وصلة إعلانية تعود إلى عام 2008، مع الديمقراطية نانسي بيلوسي، عن ضرورة التحرك لمعالجة التغيرات المناخية. وقبل ذلك بسنة جادل جينجريتش أيضا بأن "الأدلة باتت متوفرة بشأن الاحتباس الحراري ما يدفعنا إلى التحرك لاتخاذ الخطوات الضرورية لخفض انبعاث الكربون في الهواء". ولتحقيق هذا الغرض ساند "فرض سقف على انبعاث الكربون مع إقرار نظام للمقايضة يُفرض على الشركات للحد من التلوث". والحقيقة أن موقف جينجريتش في تلك الفترة لم يكن منفرداً، بل جاء منسجماً مع مواقف باقي الجمهوريين مثل جون ماكين الذي كان وراء تشريع قانوني يروم فرض سقف على الانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري في مجلس الشيوخ الأميركي وطالب بسياسة المقايضة في حال تم تجاوز هذا السقف من قبل الشركات. وفي انتخابات عام 2008 التمهدية تبنى كل من ميت رومني وتيم هوكابي نفس الموقف المدافع عن التشريع المحذر من مخاطر الاحتباس الحراري، حيث دعم الاثنان معاً وضعَ قيود على الانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري. وعندما انتُقد المرشح تيم بولنتي لتبنيه تصورات مماثلة خلال السنة الجارية، رد قائلا: "الجميع في السباق الانتخابي بما فيه الأسماء الكبيرة، تبنوا فكرة فرض قيود على الشركات للحد من الاحتباس الحراري وتقليل أضراره في مرحلة من المراحل". والحقيقة أن سبب تبني الجمهوريين لفكرة الاحتباس الحراري ودعمهم للتشريعات والقوانين التي من شأنها الحد منها، بل فرض ضرائب الكربون التي ستوفر للدولة إيرادات مهمة يرجع إلى سلامة الفكرة وقوتها الحجاجية، فالمحافظون كانوا دائماً منفتحين على القيود التي يفرضها السوق فيما يتعلق بالاحتباس الحراري انسجاماً مع فكرة المنظر "ميلتون فريدمان" وفكرته حول "الفوائض الضريبية"، فما دامت الدراسات العلمية تشير إلى ارتفاع درجات حرارة الأرض ومساهمة ذلك في الاحتباس الحراري باعتباره واقعاً معاشاً، فإنه لا ضرر من فرض ضريبة ناجمة عن آليات السوق نفسها. بالإضافة إلى أن العديد من المحافظين المنشغلين بالأمن القومي الأميركي منزعجون من الأموال الهائلة التي تدفعها الولايات المتحدة للبلدان المنتجة للنفط، ولا مشكلة لديهم في فرض ضرائب على الطاقة والكربون إذا كان ذلك سيؤدي إلى التقليل من الاعتماد على مصادر الطاقة الأجنبية. لكن رغم كل هذه الحجج التي كان يمكن لجينجريتش وغيره إبرازها في وجه المنتقدين، فضّل التراجع عن موقفه، مصرحاً أن لقاءه مع بيلوسي كان "أغبى شيء قام به في السنوات الأخيرة". وهو نموذج بات متفشياً لدى باقي المرشحين الجمهوريين مثل ريك بيري الذي انتُقد أشد الانتقاد لأنه دافع عن حق المهاجرين غير الشرعيين في تعليم أبنائهم في المدارس الثانوية وقبولهم حتى بدون وثائق. والأمر نفسه ينطبق على هيرمان كين الذي نافح عن فكرة إنقاذ البنوك المتعثرة عندما اندلعت الأزمة المالية في عام 2008 قائلاً: "يمكننا تحقيق أرباح بتأميمنا للأبناك"، وهو بالفعل ما حدث. ورغم أن كل هذه المواقف التي تبناها المرشحون الجمهوريون خاضعة للنقاش، سواء تعلق الأمر بفرض قيود على الانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري، وإقرار ضرائب على استهلاك الطاقة، أو ببرنامج الرعاية الصحية الذي طبقه ميت رومني في ولايته، فإننا لم نشهد نقاشاً منطقياً حولها ولا مراجعة لفوائدها في مقابل مساوئها، بل شهدنا هجوماً على أصحاب هذه الأفكار ونعتهم بالكفر السياسي، ما دفعهم تحت وطأة الضغط إلى الاعتذار السريع وتغيير المواقف دون تقديم الحجج على ذلك، فالمحافظون على ما يبدو أنشأوا معايير صارمة إلى درجة أن أكثر المرشحين محافظة يجدون أنفسهم مضطرين لتغيير مواقفهم حتى تنطبق عليهم المعايير، وقد يرجع هذا الأمر في جزء منه إلى طبيعة الحملات الانتخابية التمهيدية التي تفرض على البعض التأقلم مع المواقف المستجدة والتيارات الجديدة داخل الأحزاب. لكن هناك عوامل أخرى تفسر هذه التحولات في الآراء، فعلى مدى العقود القليلة السابقة تحول الحزب الجمهوري في جوهره وصار أكثر ميلاً نحو المحافظين، وكان لتطور الإعلام البديل الذي تمثله المحطات الإذاعية والمواقع الإلكترونية والقنوات الخاصة، دوراً في إحداث التوازن مع الإعلام السائد بآرائه المتحيزة للوسط الأميركي الأكثر ليبرالية في مواقفه الاقتصادية والاجتماعية، بحيث وجدت الأفكار المحافظة منصة للانطلاق وفرصة للترويج. وبالطبع ساهمت تلك المنابر الإعلامية في تأجيج حدة الاستقطاب الأيديولوجي في المجتمع الأميركي، وصارت الدعوات صريحة إلى الأنصار والمتحزبين للاصطفاف وراء هذا الخط أو ذاك، ما أعطى للتيار المحافظ زخماً غير مسبوق تحركه التصورات الأيديولوجية الجامدة التي ترفض التسويات وتصر على طهرانية المواقف. لكن المشكلة مع هذه الطهرانية الأيديولوجية المزعومة التي ينادي بها المحافظون داخل الحزب الجمهوري، وترغم المرشحين على تغيير مواقفهم إرضاء لها، أنها ستتحول مع مرور الوقت إلى عزلة ثقافية منفصلة عن مسار تطور الأفكار والخطاب السياسي الأكثر قبولاً لدى الفئات الأميركية الأوسع ذات التوجه المعتدل في القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية. مايكل جيرسون، كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس"