لنعترف بأن ثقافتنا لا تزخر بحرية الرأي والتعبير، فثقافتنا السياسية شمولية بالمجمل إما على شكل دولة دينية أو ديكتاتورية عسكرية تأخذ ألواناً عديدة: اشتراكية وجماهيرية وبعثية وقومية وماركسية وهلمجرا. وكان القمع وتصفية الخصوم غالباً ما تبرر بالتصدي للكفر والزندقة والمروق عن الجماعة، أو حديثاً بالتصدي للعملاء والخونة والمندسين وأعداء الثورة و"لا صوت يعلو فوق صوت المعركة". أسوق هذه المقدمة في أعقاب ما تسرب من اجتماع وزراء الخارجية العرب بالقاهرة الذي علقوا فيه نشاطات الوفود السورية بالجامعة العربية ثلاثة أيام ما لم تطبق المبادرة العربية لإنهاء العنف الدموي في سوريا. طبعاً لا نعرف ما هي نشاطات الجامعة التي ستعلق مشاركة الوفد السوري فيها أصلًا. الاجتماع المغلق اختتمه سفير سوريا بالقاهرة ومندوبها بالجامعة العربية -يوسف الأحمد- بحملة من الشتائم والسباب والألفاظ التي يعف القلم عن نقلها في هذه المقالة، وكان أكثر من ناله ذلك السباب هو الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني -رئيس وزراء دولة قطر ووزير خارجيتها. الآخرون لم يسلموا من السباب والتخوين وشائن القول، لكن كان للشيخ حمد بن جاسم النصيب الأكبر من كيل ما تقيأ به السفير الأحمد لفظاً، بحكم رئاسته للجنة المكلفة بالتعامل مع الملف السوري. أي إنسان محترم لا يقر تلك الكلمات النابية والألفاظ المشينة، وأقل ما يقال عنها إنها "قلة أدب". ارتبطت كلمة الأدب في الجاهلية بالكرم والضيافة والدعوة للطعام، ومنها اشتقت كلمة "مأدبة" وجمعها مآدب. وجاءت في حديث للرسول صلى الله عليه وسلم بمعنى التهذيب والتربية وحسن الخلق بقوله: "أدّبني ربي فأحسن تأديبي". ثم تطور معناها لترتبط بتعلم المأثور من الشعر والنثر ومنها تطورت لتعني الأدب في عمومه بما في ذلك علوم اللغة والبلاغة، وتطورت كلمة الأدب في الأكاديميا في مثل كلية الآداب ومنها الأديب وهكذا. ولها في بعض لغة أهل الخليج معنى غريب، فالأدب هو الحمّام عند البعض، وفي العراق يقولون "أدب سيز"، وهي من التركية التي تعني "بلا أدب". ولكن أهم معانيها المرتبط بالكلام المهذب هو "مؤدب" وهي متلازمة مع معنى "متربٍّ"، فيقال فلان "مؤدب ومتربي". ارتبط أول ظهور للرئيس العراقي السابق صدام حسين كرئيس للعراق في الفيديو الذي سربته المخابرات العراقية آنذاك عمداً لإثارة الرعب والخوف في نفوس الناس أثناء تصفيته لحزبه وأقرب رفاقه بحجة محاولة انقلابية كانوا يخططون لها مع سوريا حافظ الأسد، وفي تلك المحاكمات الحزبية -وهي متوافرة لمن يرغب مشاهدتها على اليوتيوب- كم هائل من شتائم "الشقاوة". والشقاوة بالعراق مرادفة لكلمة الشبيحة بسوريا والبلطجية بمصر والبلاطجة باليمن والعفطيّة أو الشرّية بالخليج. استمرت لغة الشتم والسب والقذف طيلة حكم صدام حسين ورافقت أركان حكمه في جلساتهم العامة والخاصة، لكن هذه الصفة كانت لصيقة بكل أنظمة العبث الثورجي على غرار نظام القذافي البائد والنظام اليمني الذي سيباد، والسوري الذي تجشأ بكلمات السباب المعيبة. ما قاله السفير السوري هو باختصار "قلة أدب" لسياسيين لم يتربوا تربية سياسية "مؤدبة"، ولعله يعكس الطبيعة التي أبقت السفير الأحمد سفيراً مدة طويلة، ويعكس طبيعة التربية الحزبية التي أخرجت سفيراً يكيل شتائم الشبيحة والشقاوة. فعلى عكس لغة السفراء والدبلوماسيين، شتم السفير السوري بلغة قليلي الأدب، وعلى عكس قلة الأدب التي تلفظ بها السفير الأحمد، كانت لغة الأدب التي أجاب بها الشيخ حمد بن جاسم. وتبدو قلة الأدب اللغوية شائعة هذه الأيام، ومنتشرة في بعض الفضائيات، وهي انعكاس لثقافة في طريقها للزوال. أنظمة البطش العربية لم ترتبط بالقمع وحسب، بل ارتبطت بقلة الأدب أيضاً، وبزوالها سنكون حتماً أكثر أدباً.