عوداً إلى الأزهر رائداً من رواد الحركة الوطنية والنهضة في مصر، وموطناً لحركة الإصلاح الحديثة، تخرج "وثيقة الأزهر" حاملة هذه الروح، ومعبرة عن استقلال الأزهر عن السلطة السياسية، متجاوزة ما تعود عليه في أغلب الأحيان من تبرير لسياسة الدولة، اشتراكية فالإسلام اشتراكي "الناس شركاء في ثلاث"، رأسمالية فالإسلام مع التجارة والقطاع الخاص ما دامت الزكاة تؤدى على الربح، الإسلام مع المقاومة... الخ. كان شيخ الأزهر بالتعيين والآن يطرح مبدأ الانتخاب كما هو الحال في الجامعات والمؤسسات العامة. كان عضواً بالحزب الحاكم والآن استقال منه، معلناً استقلاله عن الحكم. تكشف الوثيقة عن بداية نوعية لنشاط الأزهر يمليها عليه الاجتهاد كمصدر من مصادر التشريع حول ما تتوافق عليه القوى السياسية في مصر دون أخذ موقف مع هذا الفريق ضد ذاك، ودون الانخراط في بيانات التكفير ضد الخصوم. تحاول الوثيقة تجاوز الاستقطاب السلفي- العلماني الذي هو في حقيقة الأمر صراع على السلطة. فالمبادئ الإسلامية العامة كما حددها الشاطبي في مقاصد الشريعة: الدفاع عن الحياة ضد الجوع والجفاف وكل ما يؤدي إلى التهلكة، والعقل ضد الجهل والأمية والتزييف الإعلامي، والحقيقة الموضوعية والمبادئ الإنسانية العامة التي اتفقت عليها البشرية ضد النسبية والشك والمصالح الخاصة، والعرض أي الكرامة ضد صنوف القهر والفقر "الموت ولا المذلة"، والمال أي الثروة الوطنية ضد الفساد والتبذير والتفاوت الطبقي وتهريب الأموال إلى الخارج. فالإسلام دين العقل والعلم والحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية والتقدم. وهي القيم التي سماها الغرب العلمانية في مقابل السلطة الكنسية المناهضة لها. ثم تبعه بعض المثقفين العرب كجزء من التبعية الثقافية العامة للغرب، وإسقاط من تاريخ الغرب على تاريخ الإسلام، ومن ثقافة الغرب على الثقافة الإسلامية. فالاستقلال الحضاري شرط الاستقلال السياسي. ومع ذلك تحتاج "الوثيقة" إلى مزيد من التطوير والتحسين والإكمال في خمس نقاط: أولاً: الارتباط بالتراث وعلومه لا يكفي دون التركيز على تجديدهما وإعادة الاختيار بين البدائل. فبعد التعددية الفكرية التي بلغت الذروة في القرن الرابع الهجري بدأ الاختيار المذهبي في القرن الخامس وتحديد فرقة واحدة ناجية وباقي الفرق هالكة طبقاً للحديث المشهور عن تعدد الفرق وأنها كلها في النار إلا واحدة هي فرقة السلطان. وبالتالي تم تكفير المعارضة واستبعادها. فهمشت ولم تعد قائمة في الثقافة الشعبية في وجود فرقة السلطان. فالتراث متعدد الجوانب، والعلوم متباينة الاتجاهات. وتحتاج إلى تجديد شامل. من العقيدة إلى الثورة في علم الكلام دون انتظار لحدوث الثورة ثم تبريرها، ومن النقل إلى الإبداع في علاقتنا بالثقافة الغربية كما فعل القدماء مع الثقافات اليونانية والرومانية والفارسية والهندية، ومن النص إلى الواقع في علم أصول الفقه اعتماداً على أسباب النزول والناسخ والمنسوخ وإفراز الواقع لأسئلة (وَيَسْأَلُونَك) وإجابة الوحي (قلْ). والأسئلة تتغير بتغير العصر فيما سمته الوثيقة فقه الأولويات، من الطهارة والنجاسة والغنائم والسبايا والرق والصيد إلى القهر والفقر والفساد والتعذيب والاعتقال، ومن الفناء إلى البقاء ضد ما انتشر في الثقافة الشعبية من قيم الرضا والتوكل والصبر والقناعة إلى قيم الثورة والاعتراض والنفي. ومن النقل إلى العقل، من النص إلى حوامله، الزمان والمكان والبيئة واللغة والفهم، أي إلى الناس والتفسير الموضوعي حول ما يهم الأمة، أفراداً ومجتمعات في العدل والظلم، والفقه من العبادات التي يعرفها الجميع إلى المعاملات التي سبقنا فيها الغير في نظم العالم الجديدة. ثانياً: التجديد "طبقاً لمذهب أهل السنة والجماعة". وقد حاولت الحركات الإصلاحية تجاوز الطائفية والمذهبية إلى "إسلام بلا مذاهب". ونشأت حركات التقريب بين المذاهب. وقد عانت الأمة من الفرقة المذهبية بين سنة وشيعة. لقد ارتبط مذهب أهل السنة والجماعة أحياناً بالسلطة ودافع عنها ضد المعارضة التي مثلتها المذاهب الأخرى كالشيعة. بل لقد عارض مذهب أهل السنة بعد اتحاده بالأشعرية بعض مذاهب الفرق السنية الأخرى. وقد أحسن الأزهر بالسماح لكافة طلاب العالم الإسلامي بالدراسة فيه باعتباره جامعة إسلامية بصرف النظر عن مذاهبهم وطوائفهم بل والسماح للطلاب من كل الأديان والمذاهب بالدراسة فيه كما كان الحال عند القدماء في المساجد. ثالثاً: ما زالت روح الاستبعاد والحكم بالانحراف على تيارات دون أخرى باسم الأزهر باعتباره سلطة دينية. فلا توجد تيارات مستقيمة وأخرى "منحرفة"، كلها تعبير عن واقع اجتماعي وسياسي وظروف ومراحل تاريخية. تـُفهم أولًا ثم يُعقد معها حوار ثانيّاً ثم البحث معها عن الاتفاق على الحد الأدنى من المبادئ الوطنية والمصالح العامة. إن الحكم بالانحراف والتطرف هو حكم متبادل. أهل الاستقامة يتهمون تيارات أخرى بالانحراف. وهؤلاء يتهمون أهل الاستقامة بأنهم فرقة السلطان وهو انحراف عن استقلال الشرع. فالانحراف اتهام متبادل بين الفرق. ويقترب من سلاح التكفير الذي من أجله قُتل شنقاً أو صلباً كثير من المخالفين في الرأي وفي المواقف السياسية. وهو ما يتعارض مع الوثيقة ذاتها "وقوف الأزهر على مسافة واحدة من جميع الفرقاء". رابعاً: "اعتبار الأزهر الشريف هو الجهة المتخصصة التى يُرجع إليها في شؤون الإسلام وعلومه وتراثه واجتهاداته الفقهية والفكرية الحديثة" عود إلى السلطة الدينية الواحدة كحكم على الآراء والاجتهادات الأخرى. والإسلام ليست به سلطة فقهية اجتهادية. إنما الأمر موكل للأفراد والعلماء. والمجتهد هو العالم بأصول الشريعة الذي على دراية بمصالح الناس. وطالما نشأت مآسٍ من السلطات الدينية منذ ذبح الجعد بن درهم يوم صلاة العيد أسفل المنبر حتى صلب الحلاج وقتل السهروردي وتعذيب الفقهاء واعتقالهم في السجون مثل ابن تيمية والعز بن عبدالسلام. فلا سلطة في الإسلام إلا للعقل والمصالح العامة. وكلاهما متفق عليهما من جمهور العقلاء وفقهاء الأمة. خامساً: "تأكيد الالتزام بالمواثيق الدولية" لا يبين عيوب هذه المواثيق النظرية والعملية، النظرية في تعبيرها عن الثقافة الغربية، والعملية بوقوعها في المعيار المزدوج، تطبيقها في حالة دون أخرى. فمواثيق حقوق الإنسان تقوم على تصور فردي وليس على تصور جماعي. تدافع عن حقوق الأفراد وليس عن حقوق الشعوب. ومواثيق ومعاهدات عدم انتشار الأسلحة النووية تطبق في حالة إيران وقبلها سوريا والعراق، وكانت ذريعة لاحتلاله، ولا تطبق في حالة إسرائيل التي تمتلك مئات من الرؤوس، النووية وتحتل أراضي الغير، ثلاث دول عربية. من الأفضل إعادة صياغة المواثيق الدولية حتى تكون أكثر عدلًا وإنصافاً في رؤيتها وتعبيرها عن مصالح جميع الشعوب، وليس شعباً دون آخر. "وثيقة الأزهر" على رغم أنها نقلة نوعية في الوفاق الوطني إلا أنها في حاجة إلى مزيد من التطوير والإحكام من جميع التيارات الفكرية والسياسية في البلاد دون استبعاد جماعات أو أفراد، وأن يكون النقاش حولها مفتوحاً للجميع حضوريّاً وإعلاميّاً. فهي ليست بأقل أهمية من محاكمة رجال النظام السابق. وإذا ذكر رواد حركات الإصلاح الديني من داخل الأزهر فيُذكر أيضاً رواد النهضة من خارجه. فكلاهما رافدان متساويان في الشرعية وفي العمل الوطني. فالوفاق ليس فقط بين قوى سياسية حالية بل هو أيضاً وفاق تاريخي بين تيارات ثقافية من أجل تحقيق وحدة الشخصية الوطنية.