في خطوة تعتبر الأبرز في حياة الجامعة العربية، تم التصويت إزاء الأوضاع المتردية في سوريا يوم السبت الماضي باتخاذ إجراءات حاسمة لوقف أعمال العنف ضد المتظاهرين السوريين، بموافقة 18 دولة، واعتراض 3 دول (اثنتان منهما آيلتان للسقوط - سوريا واليمن) ولبنان، وامتناع دولة واحدة عن التصويت، هي العراق. وتشكل هذه الأغلبية -في الجامعة العربية- تلمساً مسؤولاً لواقع الأوضاع المأساوية التي يعيشها الشعب السوري. كما يشير إلى عزم الجامعة العربية على النزول من عرش الحكومات إلى مستوى الشعوب. ونأمل أن تكون صحوة الجامعة هذه جامعة، وغير "مفصلة" على شعب دون آخر، خصوصاً ما تعلق بالحريات العامة والأمن الإنساني والعدالة الاجتماعية. كما أن دعوة أطراف المعارضة السورية إلى الاجتماع في مقر الجامعة العربية خلال ثلاثة أيام للاتفاق على رؤية موحدة للمرحلة الانتقالية في سوريا، إشارة واضحة لقرب الاعتراف العربي بالمعارضة كبديل للنظام السوري. كما أن الإشارة إلى قيام الأمين العام للجامعة العربية بالاتصال بالمنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان -بما فيها الأمم المتحدة- وبالتشاور مع أطياف المعارضة السورية لاتخاذ الإجراءات المناسبة لوقف نزيف الدم على الأراضي السورية، هي الأخرى تحمل مغاني عديدة، لعل أقلها استصدار قرار دولي -كما حصل مع ليبيا وقبلها مع العراق- لتشكيل تجمع دولي يُسقط النظام بالقوة، ضماناً وحماية لأرواح السوريين الذين يسقطون يوميّاً نتيجة التعامل الوحشي لقوات الأمن والجيش مع المتظاهرين المسالمين. ويبدو أن (عَزلَ) سوريا عبر القرارات التي صدرت عن الجامعة العربية، مثل دعوة الجيش السوري إلى الامتناع عن المشاركة في قتل المدنيين، وتعليق مشاركة الوفود السورية في اجتماعات الجامعة، وسحب السفراء العرب من دمشق، وكذلك توفير الحماية للمدنيين السوريين، هذا (العَزل) سيكون بداية لخطوات قادمة، لاشكّ ستسهم في إسقاط النظام وحماية المدنيين السوريين من أعمال العنف التي يتعرضون لها على أيدي عناصر الأمن والجيش السوري، الذي كان من المفترض أن يفتح نيرانه على جبهة أخرى غير صدور السوريين المدنيين! وكان من المفترض أن يسحب النظام السوري وحدات الجيش من المدن المنتفضة ويوقف العنف ضد المواطنين المدنيين، ويفرج عن السجناء السياسيين ويبدأ محادثات مع المعارضة خلال أسبوعين -حسب المبادرة العربية لوقف نزيف الدم في المدن والقرى السورية- حيث حصرت الأمم المتحدة ما يزيد على 3500 شخص قتلوا حتى يوم 7 نوفمبر 2011. ويبدو أن الجامعة العربية كانت في حرج كبير قبل اجتماعها الأخير (الصحوة) بشأن التعامل مع الأوضاع في سوريا، مثلما تعاملت مع الأوضاع في كل من تونس ومصر وليبيا! وهي ذات القضية في التعامل مع الأوضاع في اليمن، نظراً لمقاربات الجوار والحسابات السياسية ومحاذير إسقاط النظام وتداعيات ذلك على دول الجوار! ذلك أن الدول العربية تتحرج من أن تأتي الدائرة عليها، ويكون حرج الجامعة العربية كبيراً. وللأسف فإن الإعلام السوري ما زال يصف المطالبين بالإصلاحات بأنهم "مجموعات إرهابية"، بل إن ما يعلنه النظام عن إطلاق سراح 500 معتقل من المتظاهرين، تقابله أرقام الناشطين السوريين التي تشير إلى اختفاء عشرات الآلاف منذ تفجّر الأوضاع في سوريا في مارس الماضي. وقالت مصادر الناشطين: "إن كثيرين (من هؤلاء المعتقلين) في سجون سرية تابعة للشرطة أو في منشآت رياضية تم تحويلها إلى سجون مؤقتة". وعشية التصويت في الجامعة العربية على القرارات الخاصة بالأوضاع في سوريا، ظهرت على شاشة التلفزيون السوري مجموعة تندد بالقرارات وتشيد بالنظام وتمتدح الأمن في البلاد، وعلى بُعد كيلومترات قليلة يتصدى الجيش بكل وحشية للمواطنين المطالبين بالإصلاح! بل إن الإعلام السوري يصف التصدي للمواطنين المدنيين بكلام مؤداه أن الجيش يقاتل "عصابات مسلحة"! وللأسف، فإن هذا التوجه الإعلامي كان قد استخدمه القذافي في التعامل مع الثورة، وكان قطار التغيير وما خلفه بعد ذلك أسرع من القطار في سوريا! وتلك مشكلة كبرى في بعض وسائل الإعلام العربية. وكانت جامعة الدول العربية قد طالبت سوريا يوم الأحد قبل الماضي العملَ على إنهاء أشهُرٍ من إراقة الدماء "قبل فوات الأوان"، ولا ندري إن كانت الجملة الأخيرة تحمل مضمون التهديد أم التذكير بمصائر زعماء عرب خالفوا تيار الشعوب! وحدسُنا هنا تحقق في قرارات الجامعة يوم السبت الماضي. وكان النظام السوري قد أمعن في إرسال قواته إلى المدن المنتفضة المطالبة بإسقاط النظام وإجراء إصلاحات دستورية. فقد دخلت قوات عسكرية تابعة للجيش السوري إلى حمص وريفها وقتلت في الأسبوع الماضي أكثر من 100 شخص بنيران الدبابات في حي "باب عمرو". وسقط يوم تصويت الجامعة على القرارات الخاصة بسوريا 5 قتلى. كما سقط يوم الجمعة قبل الماضية (جمعة تجميد العضوية) 33 قتيلاً من المواطنين السوريين على أيدي قوات الأمن والجيش في عدة مدن سورية. بالطبع لن نتمكن اليوم من معرفة الأرقام الصحيحة والكاملة لعدد الضحايا الذين يسقطون يوميّاً في المدن والأرياف السورية، ولا نعرف أيضاً حجم هؤلاء الذين تم اعتقالهم ولربما تصفيتهم جماعيّاً أو تعذيبهم دون محاكمات في السجون. وكان المجلس الوطني السوري المعارض قد بدأ تحركاً نهاية شهر أكتوبر الماضي لحث الدول العربية على تبني "موقف قوي" ضد نظام بشار الأسد، بعد أن ارتفع عدد ضحايا القمع إلى 3500 شخص من المواطنين الأبرياء. وحدد المجلس "حزمة" من الإجراءات العاجلة من أجل محاصرة النظام تتضمن تجميد عضوية النظام السوري في الجامعة العربية ونقل ملف انتهاكات حقوق الإنسان وجرائم الإبادة إلى محكمة الجنايات الدولية، ويبدو أن تلك الإجراءات لقيت ترحيباً في الجامعة العربية. وقد تحققت المفوضية العليا لحقوق الإنسان من وقوع أكثر من 3500 قتيل منذ اندلاع الثورة في سوريا في مارس 2011. وطالبت منظمة "هيومن رايتس ووتش" من نيويورك بتجميد عضوية سوريا في الجامعة العربية، كما طالبت الأمم المتحدة بفرض حظر على استيراد الأسلحة وإحالة أعضاء النظام السوري إلى المحكمة الجنائية الدولية، كما أن المنظمة وثقت عشرات الوقائع التي هاجمت فيها قوات الأمن والمليشيات التابعة لها التظاهرات السلمية التي ينظمها الشعب السوري. واستنكرت المنظمة قيام قوات الأمن باستخدام الرشاشات الثقيلة وتلك المضادة للطائرات في قصف الأحياء السكنية لإرهاب الناس. وفي إشارة دبلوماسية "حذرة " من وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون ضمن كلمة لها في المعهد الوطني الديمقراطي بواشنطن، أوضحت موقف الولايات المتحدة السابق من دعم الإصلاح، وقالت: "نقرُّ بأن الخيار الحقيقي هو بين الإصلاح وعدم الاستقرار"، وأضافت "إن المصدر الأساسي لعدم الاستقرار في المنطقة ليس في طلب التغيير، بل في رفض إجراءات التغيير"! وهي إشارة لبعض الأنظمة التي ما زالت ترفض الاستجابة لمطالب شعوبها، حيث أردفت "وإن ذلك يصحّ في سوريا". إن صحوة الجامعة العربية الأخيرة لربما تعدّل المسارات السابقة وسياسة "المحاور" التي كانت دوماً تضعف الجامعة وتجعل كثيرين لا يثقون فيها. د. أحمد عبد الملك أكاديمي وإعلامي قطري