سألت السيد طالب الرِّفاعي: هل لي مخاطبتك بلقب "آية الله"! قال: "تلاميذ تلاميذي غدوا آيات الله، وما قيمة الألقاب وقد صارت تُنثر على الرؤوس نثراً، شأنها شأن (الدُّكتور) تُطلق بلا مضمون"! آثرتُ أن أُلقبه، فالرَّجل درس بالنجف قبل 60 عاماً، والنَّجف هي الأصل، مهما تفرعت الحوزات وتكاثرت المرجعيات والولايات الفقهية، بينما خريجو حوزات نشأت في المهاجر صاروا آيات الله. تخرج الرفاعي من كلية الفقه، المعترف بها رسمياً (1959)، وحصل على الماجستير ثم الدكتوراه من جامعة القاهرة كلية دار العلوم. كان الرفاعي وراء أحداث فاصلة في تاريخ الإسلام السياسي العراقي، خاض صراعاتها شاباً، وجنى الإحباط منها شيخاً. عندما يقرأ المذكرات، في تاريخ الحركات الدينية، يأخذه العجب العجاب من الإدعاءت، وما ذكرت أمامه شخصيةً إلا وأتاك بخبرها اليقين، فهو شاهد على عصرٍ مضطربٍ، بل إنه كان مساهماً في اضطرابه. كم كان الرفاعي متحمساً لدولة إسلامية، آملاً فيها العدالة الاجتماعية، وتنفيذ أمر الله في إكرام الإنسان، وكم صار محبطاً بعد خواء تجارب الإسلاميين أمامه، وقد عاش غرسها وحصاد خوائها، فغدا قلقاً على غرسته الأولى، "حزب الدعوة". فآنذاك كان ذا وهجٍ، وها هو يخفت كالرماد بعد ممارسة السلطة، وأهل جنوب العراق ووسطه يسمون الرماد خفتاً. يرى الرفاعي أن غرسه صار جسداً بلا روح، لذا قال لأحفاده من دعاة اليوم: "لا تتحملوا السلطة، ففي ذلك نهاية حزبكم". قام أحدهم مغتراً فقال: "سيدنا الرفاعي، العراق من الفاو إلى زاخو يهتف للجعفري"! هذا الغرور هو الذي جعل المالكي، في ما بعد، يظهر متجهماً حين أُعلنت نتائج انتخابات 2010 طالباً إعادة فرز الأَصوات، وأُعيد الفرز والنتيجة نفسها، فراحوا إلى القضاء وكانت صفعة بوجه عدالة القضاء العراقي، في تفسيره المادة الخاصة بالكتلة الفائزة. قال الرِّفاعي يرثي رفيقاً قديماً في "الدَّعوة" وصديقاً حميماً، وهو جابر العطا، توفى قبل أيام: "أما الدُّعاة فحالهم يُرثى لها.. والقول فيهم والعِراق يطول". لم يسعد آية الله بما آل إليه الحال، فالشَّاب، وهو في عمر السادسة عشرة، كاد ينتظم في صفوف من قضى زمناً في الصراع ضده، وهو الحزب الشيوعي العراقي، لا لشيء إلا أنه كان يظن أن العدالة الاجتماعية ستتحقق عبر شعار العمال والفلاحين، وكان ينظر بعين غاضبة للفوارق الطَّبقية بمدينته الرِّفاعي، جنوب العِراق، ويسمع من شيوعيي الأربعينيات اسم أبي ذر الغفاري (ت 32 هـ)، الصَّحابي الذي عُرف باحتجاجاته المبكرة! لكن كتاباً قرأه للشيخ محمد مهدي الخالصي (ت 1963) "الشِّيوعية عدوة الأديان" جعله يغض النَّظر عن اليسار وأهله، ويُعجب بالخالصي ويسعى إلى مدرسته، ولما لم يجد فيه المثل المُتبع فارقه إلى النجف. أقول: لو أن الرفاعي، لشخصيته وجرأته، ظل رافعاً شعار "وطن حر وشعب سعيد" لصار قيادياً بين الشِّيوعيين. قلت له: "بدلاً من آية الله لكنت الرفيق الرفاعي"! ضحك من أعماقه! فمن انجذابه آنذاك أخذ يحمل قلم حبر أحمر اللَّون، وهو لون كان محتكراً لأهل اليسار. جالت في صدر الرجل فكرة العدالة، لكنه لا يراها إلا عن طريق الله، لهذا جمع أمره وغادر إلى النجف، واشترى من بلدته قماش عمامته السوداء ليعتمرها على يد مجتهد مثلما جرت العادة، ومازال يجهل لفها مع أنه يعتمرها لستين عاماً، فانتظم في الدرس الفقهي، وسعى لتأسيس حزب يجمعه بالدين، غير أن آماله أُحبطت بعد اصطدامه بما آلت إليه تجارب تسييس الدِّين. سألته: كيف شعرتَ وأنت تعتمر العمامة لأول مرة (1951)؟! قال: كُدت أرتفع عن وجه الأرض شبراً، فيومها قابلتها بتاج فيصل الأول (ت 1933) زهواً. وهي حسب ما سمعه من أحد الظُّرفاء: "منعتني فُسقي ورزقي"! لتحقيق العدالة طرح الطَّائفية جانباً، فامتدت له صداقات بإخوان المسلمين والتَّحريريين (نسبة لحزب التَّحرير)، بلا انتماء، مع أن شباباً شِيعة انتموا للحزبين السُّنَّيين بالعِراق، قبل تأسيس "الدَّعوة" (يوليو 1959)، والرِّفاعي يَصرُ على تاريخ التَّأسيس: "ليس سوانا نحن الأربعة، فمَن له حق الحديث عن تاريخ الدَّعوة سوانا"؟! هو وباقر الصَّدر (اُعدم 1980)، ومهدي الحكيم (اغتيل 1988)، وباقر الحكيم (اغتيل 2003)، إثر خطاب ألقاه في مؤتمر الحزب الإسلامي العِراقي (الإخوان) بالأعظمية (1960) رشحه "الإخوان" لرَّئاسة الحزب، ورفض معتذراً، فهناك مَن لا يرحمه مِن أترابه، فهو لم يدخل هذا التَّنظيم وابتلاه مَن ابتلاه. بعدها طُلب منه رئاسة التَّنظيم الشِّيعي الذي تشكل لمواجهة المد اليساري، قبل أن يُسمى بالدَّعوة، فنصحهم بالتَّوجه إلى باقر الصَّدر فكان يتبعه كصديق ونموذج، وإذ إن الحكيمين، مهدي وباقر، بايعا الصَّدر قائداً، فعذر الرِّفاعي: "نحن اثنان لم نبايع أنا والصَّدر، لأننا الأَصل". انسحب الحكيمان والصَّدر بتوجيه المرجعية وظل الرِّفاعي فاعلاً، حتى وجد خلافاً بين العمائم والأفندية، فكان أول انشقاق على يده، ثم سده بنفسه. صلى الرِّفاعي على جنازة شاه إيران (ت 1980)، وكان وكيل مرجعية النَّجف بمصر (1969-1985)، وهو يعلم أن الصَّلاة واجبةً على المسلم مهما كان شأنه، فكثر القيل والقال، حتى كاد يطعنه أحد الإيرانيين بسكين عشية وفاة الخميني (1989). كذلك ظل على صلة بالمرجع شريعتمداري (ت 1985)، والأخير لم يكن على وئام مع الثَّورة الإيرانية. كنت أبحث عنه، فلدي ما أوثقه منه شخصياً، بعد أن التقيت به العام 1994، حتى أتاحت لي أبوظبي هذا اللقاء. وجدته كما تركته مهيب الطَّلعة شاباً في ثوب شيخ، عميق الفكرة حاد الذَّاكرة، مع أنه تخطا الثَّمانين. ما بات تسييس الدِّين مغرياً للرِّفاعي، فعاد متذكراً ما نُسب إلى الإمام محمد عبده (ت 1905)، وهو بباريس: "وجدت الإسلام ولم أجد المسلمين وعُدت إلى مصر فوجدت المسلمين ولم أجد الإسلام" (عن السَّيد الرِّفاعي)، وهو تعبير صريح عن قيمة الدولة المدنية مثلما هي ببلدان أوروبا. كان يعتز بجمال الدِّين الأفغاني (ت 1897)، وما زال، ومِن بعده اعتز بتلميذه عبده. إنها مراجعة صريحة أجد الرِّفاعي فيها متحمساً لدولة عدالة مدنية، بحجم تحمسه الأَول لدولة دينية. قال: "سيثلبني الكثيرون عما أقوله لكن ليس في العمر بقيةٌ للمجاملة".