كان يوليوس قيصر يقسم بلاد الغال إلى ثلاث مناطق، لكن بالنسبة لأميركا كان العالم العربي مقسماً إلى جزئين: الأنظمة التسلطية المناوئة، والأنظمة التسلطية المنصاعة، هذا على الأقل ما كان عليه الحال حتى اللحظة الراهنة، فقبل ثمانية أشهر شهد العالم العربي تغييرات عميقة رحل على إثرها بعض الحكام العرب المستبدين، فيما الباقي ينتظر دوره، لتنقشع الساحة المتبقية على دول عربية تخوض مراحل انتقالية صعبة تسودها الفوضى والغموض، فيما الملكيات التي يبدو أنها نجت هذه المرحلة، منشغلة باحتواء، أو استباق التحولات الجارية، هذا في الوقت الذي تخوض فيه القوى خارج إطار الدولة صراعات مع نفسها مثل "حزب الله" والسلطة الفلسطينية، كل تلك التغيرات تجعل أميركا أمام ساحة يطغى عليها الاضطراب والتعقيد بعدما خلت إلا قليلا من القوى التقليدية التي كانت تعتمد عليها في تعزيز مصالحها. ومع أن "الربيع العربي" قد يأتي بالمزيد من الشفافية والمحاسبة والمساواة بين الجنسين، بل حتى ما يشبه الديمقراطية، يبقى على المدى البعيد أن هذه التحولات ستقود إلى منطقة صعبة أقل ترحيباً بأميركا التي ما فتئت تتراجع مصداقيتها. وعلى مدار الخمسين عاماً الماضية تعاملت أميركا مع نوعين من القادة في المنطقة: الخصوم (سوريا وليبيا والعراق) والأصدقاء (مصر وتونس والسعودية والمغرب والأردن، وبعض بلدان الخليج العربي). ورغم تبادل الأدوار في مناسبات شتى تحول فيها الخصوم إلى أصدقاء عندما تصدى العراق لإيران وتعاونت سوريا في عملية السلام وقبلت ليبيا التخلي عن أسلحتها للدمار الشامل، لم تغير تلك الأنظمة طبيعتها، ولعل النهايات المأساوية لصدام والقذافي، وربما بشار في مرحلة لاحقة، يدلل على الطبيعة الجامدة للأنظمة وتشابهها في العمق رغم بعض التحولات. لكن وفي معظم الحالات، وفرت تلك الأنظمة الاستبدادية مناخاً مستقراً وآمناً خدم المصالح الأميركية القائمة على الاحتواء الناجح للاتحاد السوفييتي السابق، والوصول إلى النفط بأسعار معقولة، وضمان الأمن لإسرائيل، بل حتى إحراز التقدم في عملية السلام، هذا الواقع جعل أميركا في وضع مريح وأمام دور تفهمه جيداً. ومع أن الأوضاع في المنطقة لم تكن سهلة دائماً، لا سيما في ظل الإزعاج الذي يمثله الصراع العربي- الإسرائيلي وما تسبب فيه من حروب، وصدمات النفط الناجمة عنه، فضلاً عن الثورة الإيرانية والتطرف الإسلامي، ناهيك عن بعض الكوارث مثل غزو العراق، تمكنت أميركا في المجمل من تمرير سياساتها وحافظت على وجاهتها في أعين الزعماء المستبدين على حساب شعبيتها المتدنية لدى الجمهور والشارع، لكن لمَ لا؟ فقد وجدت أميركا نفسها مدفوعة لعقد صفقة في العالم العربي تتغاضى بموجبها عن تجاوزات المستبدين في الحكم وحقوق الإنسان مقابل ضمان تعاونهم في مجالات متعددة، غير أن أميركا اليوم قد تجد نفسها في وضع غريب تخسر فيه الديمقراطية والاستقرار على حد سواء، فالنفوذ الأميركي في أدنى مستوياته، وشركاؤها التقليديون في المنطقة رحلوا عن الساحة دون معرفة بمن سيحل مكانهم، أو من سيقوم بأدوارهم، والنتيجة أننا لسنا فقط أمام ربيع عربي، بل نواجه بالأساس وضعاً بالغ التعقيد قد يخرج عن السيطرة لسنوات مقبلة. وفي هذا السياق تبدو تونس التي بدأ فيها كل شيء الأوفر حظاً في الانتقال إلى الديمقراطية، وذلك لأن البلد صغير وليس في صلب الأحداث، أما في مصر وليبيا حيث الآمال كبيرة يبقى من الصعب التكهن بالنتيجة، فمصر بعد مبارك هي أقل ازدهاراً وأمناً من ذي قبل، ويبدو أنها تتجه نحو مستقبل شبيه بما كانت عليه تركيا قبل عقدين، فيما يفترض بليبيا ذات المساحة الشاسعة والسكان الذين لا يتجاوزون ستة ملايين نسمة والثورة النفطية الكبيرة أن تتغلب على ظروفها الصعبة، لكن التحديات الكبيرة المتمثلة في الميلشيات المتنافسة والمتطرفين الإسلاميين والتدخلات الخارجية وغياب تقاليد في ممارسة الحكم تجعل ليبيا بعيدة عن المثال الذي تتوخاه، وفي الأماكن الأخرى تبدو الأوضاع أكثر سوءاً، بحيث لا أحد يعرف ماذا سيجري في سوريا وإلى أين ستؤول الأمور، فالسيناريوهات تتوزع بين استمرار الوضع الحالي واندلاع حرب أهلية، أو انقلاب علوي ضد عائلة الأسد، ثم تدخل دولي في حال وصلت إراقة الدماء إلى نقطة لا يمكن السماح بها، والأكيد أنه مهما كان عليه الوضع السوري سيكون الأمر طويلاً ودامياً، والغموض نفسه يلف الحالة اليمنية شديدة التعقيد، والمفارقة في كل ما يجري على الساحة العربية أن الملكيات قد تكون الأوفر حظاً في تجنب عمليات الانتقال المؤلمة، لعوامل متعددة منها المال والشرعية المنبثقة من الإسلام وبعض القادة المتنورين. ومع أن البعض يطالب بالصبر ويبشر بنهاية سعيدة للربيع العربي وللعرب، وهو أمر صحيح تماماً ما دام المواطن سيقرر مصيره لأول مرة، إلا أنه وفيما يتعلق بأميركا فإنه بالقطع لن تكون النهاية سعيدة. فسياستنا التي تعارضها الشعوب لن تتغير، كما أن قدرتنا على النجاح في الحروب وصناعة السلام، التي تمثل المقياس الحقيقي لاحترامنا في المنطقة، آخذة في التراجع، فنحن لا نستطيع حل القضية الفلسطينية ولا وقف إيران من امتلاك القنبلة، ولا نستطيع تحقيق انتصارات في العراق وأفغانستان، هذا ناهيك عن تورطنا في صفقات مع بعض دول المنطقة. ومع أنه يجدر بنا في هذه المرحلة فك الارتباط بالمنطقة والتركيز أكثر على ترتيب بيتنا الداخلي، إلا أنه مع الأسف لا نستطيع ذلك، وهنا تكمن المعضلة الأميركية: التورط في منطقة لا نملك فيها الكثير من الأصدقاء، فلا نحن قادرون على حل مشاكلها ولا الانسحاب منها. آرون ديفيد ميلر ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ باحث بمركز "وودرو ويلسون" الدولي للأكاديميين، ومفاوض في الشرق الأوسط مع إدارات أميركية سابقة ينشر بترتيب خاص مع خدمة "إم. سي. تي. إنترناشونال"