إن أية عملية إصلاحية لا يمكن أن تتأتّى بصورة فعّالة وناجعة إلا بتنزيل مختلف المقتضيات الدستورية من عليائها وترجمتها إلى واقع ملموس، وبوجود مشروع إصلاحي مجتمعي تنخرط فيه وتقوده مختلف القوى المجتمعية من نخب وأحزاب ونقابات وإعلام ومجتمع مدني ومؤسسات تعليمية. وتتحمل هذه الأخيرة مسؤولية كبيرة على مستوى مواكبة التحولات المجتمعية الراهنة وكسب رهان الانتقال نحو الديمقراطية الذي طال انتظاره، من خلال مقرراتها ومناهجها ومخرجاتها، ومعلوم أن جودة التعليم وانفتاحه على قضايا المجتمع أضحى مؤشراً رئيسياً من مؤشرات التنمية الإنسانية على الصعيد العالمي. رهان التغيير الديمقراطي يقود إلى وظيفة التنشئة الاجتماعية المبنية على المواطنة باعتبارها من المهام الأساسية المنوطة بالمدرسة، على مستوى ترسيخ القيم النبيلة داخل المجتمع، وبخاصة وأن الديمقراطية لا تبنى بسن القوانين وإحداث المؤسسات فقط، بقدر ما تتأسّس على الاستثمار في الإنسان. التنشئة الاجتماعية هي عملية تستهدف إضفاء الطابع الإنساني على شخصية الفرد، فهي عملية تعلّم وتعليم وتربية، تقوم على الاتصال والتفاعل الاجتماعي، وتهدف إلى تنمية شخصية الفرد وقدراته العقلية ومنحه الثقة في نفسه، من خلال الإسهام في تكوين سلوكه الاجتماعي ودفعه نحو التكيف الإيجابي مع محيطه المجتمعي، والإسهام في بلورة سلوكات اجتماعية وميولات نفسية مقبولة ومرغوب فيها، تتواءم والضوابط والقيم الاجتماعية والروحية.. التي يؤمن بها المجتمع. وهي عملية من المفترض أن تساهم في بلورتها مجموعة من القنوات، سواء تلك التي يجد الفرد نفسه بداخلها تلقائيا كالأسرة والمدرسة..، أو تلك التي تتاح له فيها إمكانية الاختيار، كما هو الشأن بالنسبة للجمعيات والأندية والأحزاب السياسية.. وجود الأفراد داخل هذه القنوات أو الانتماء إليها، يمكنهم من إشباع حاجاتهم الاجتماعية والنفسية، ويمنحهم الطمأنينة والقوة والشعور بالأمان في المجتمع. ومن هذا المنطلق، يفترض في هذه القنوات أن تعمل مجتمعة وبدرجات مختلفة وفي حدود من الانسجام على إكساب الأفراد الاتجاهات والقيم الاجتماعية والسياسية والثقافية والدينية.. بما يسمح ببلورة تنشئة ناجعة وبنّاءة. ومعلوم أن الهامش المتاح للقنوات التقليدية المرتبطة بالتنشئة الاجتماعية (الأسرة، المدرسة، المسجد..)، أصبح يضيق بفعل التحولات الدولية الأخيرة، وبروز قنوات أخرى عابرة للحدود، تروّج لقيم اجتماعية ولثقافة "معولمة" من خلال وسائل الإعلام والاتصال الحديثة والمتطورة. وتحتل المدرسة موقعا مهماً ومحورياً في هذا السياق، سواء من حيث حضورها الفعال والمستمر في حياة الفرد، أو من حيث آلياتها المستثمرة في هذا الصدد. فالنشء يتلقى عبر هذه المؤسسة مجموعة من الرسائل والخطابات والدروس التي يفترض أن تغرس فيه الشعور بالولاء وبالانتماء للوطن. وتقدم له صورة محددة لهذا الأخير من خلال مضامين مواد التربية الوطنية والتاريخ. وتطور إمكاناته الفكرية والثقافية وترسخ لديه قيما نبيلة مبنية على الحوار والاختلاف والتسامح ومساعدة الآخرين. وإذا كان التعليم يعتبر أحد أهم المداخل الرئيسية لتحقيق تنمية حقيقية محورها الإنسان، وبوابة لإعمال تنشئة اجتماعية بناءة، فإن عدداً من التقارير تشير إلى المأزق الذي تعرفه منظومة التعليم في بعض بلدان العالم العربي، من حيث عدم مسايرتها للتطورات العلمية، وعدم انفتاحها على قضايا المجتمع الحقيقية، بالإضافة إلى اعتمادها لمناهج وطرق تعليمية جامدة ومتجاوزة، ترتكز إلى الحفظ والتلقين والشحن، عوض الفهم والمناقشة والإبداع والتحفيز على طرح السؤال، وفي ظل نظم تعليمية وتربوية عقيمة، أغلبها ينحو للماضي أكثر منه إلى الحاضر والمستقبل، ويكرّس التقليد والتبعية بدل الاجتهاد والإبداع. وهو ما يفسر كون شهادات العديد من خريجي المعاهد والجامعات لا تعكس المستوى العلمي الحقيقي لحامليها، الأمر الذي يجعلهم عرضة للأفكار الخرافية واللاعلمية وللبطالة. التقصير في تطوير هذا القطاع الحيوي، سببه حسابات سياسية تحكمية ضيقة تأكد إفلاسها وخطورتها على الدولة والمجتمع. ولعل هذا ما يفرض تكثيف الجهود من أجل بلورة سياسة تعليمية عقلانية ومنتجة وخلاقة، تنبني على رؤية استراتيجية متفاعلة مع الواقع المحلي ومع تحديات المحيط، وقادرة على إعداد جيل قادر على الابتكار والمبادرة.. الاستثمار في العنصر البشري عبر بوابة التعليم القويم والتربية السليمة للنشء باعتبارهما رأسمال أساسياً لكل مجتمع، وتفعيل قنواتهما باتجاه بلورة تنشئة اجتماعية منسجمة ومتكاملة تقوم على تنمية شخصية الفرد، أضحى أمراً حيوياً مفروضاً في ظل الإكراهات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وبخاصة وأن النشء يجد نفسه محاطاً ومطوقاً بـ"منتجات" تربوية عديدة متباينة تصل إلى حد التناقض أحياناً. والتنشئة المنشودة هي تنشئة من أجل التنمية، وتنشئة قادرة على إعداد جيل يرفض الظلم والخنوع والاستبداد، ويستطيع إبداء الرأي وطرح الأسئلة الكبرى بحرية وطلاقة، ويؤمن بالاختلاف وبالعمل الجماعي، وكفيلة بتحفيزه على الإبداع والتفاعل والفعل والتطوع والتضحية، إنها تربية تنبني أيضاً على الثقة في النفس واحترام حقوق الإنسان، تربية عقلانية وواعية وبعيدة عن الارتجال والعشوائية، تتوخى في أبعادها تربية النشء على الإيمان بالتعددية وروح التسامح والمواطنة والديمقراطية. إدريس لكريني كاتب مغربي ينشر بترتيب مع مشروع "منبر الحرية"