مجدداً... لبنان في قلب العاصفة، وهو منقسم على نفسه. ازداد الانقسام، وازدادت الحدة المذهبية منذ إسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري. شُكلت حكومة جديدة، شعر معها فريق كبير من اللبنانيين أنه استهدف وأخرج من السلطة، وأن استهدافه هو بداية مرحلة عنوانها الإمساك بمفاصل القرار السياسي من قبل خصومه. مع الحكومة الجديدة، الخلاف قائم على أمور كثيرة داخلها. وقائم معها على أمور أساسية. استراتيجية مهمة من قبل المعارضة. وكل هذا قبل أن يطرأ العامل السوري، أي عامل الأحداث التي تعصف بسوريا. في الحكومة، إدارة سياسية ليست بمستوى المرحلة. ولا بمستوى التغيير الذي حصل. حكومة لم تتمكن من تحقيق نقلة نوعية تؤكد أن التغيير كان مهماً بالنسبة إلى اللبنانيين. والحكومة نفسها لا تبدو متماسكة. خلاف عاصف فيها على موضوع الكهرباء، سببه سوء إدارة المعنيين به وسوء تعاطيهم مع الأطراف المعنية، وصولاً إلى تهديدهم بفرط الحكومة والتسبب بأزمة سياسية حادة في البلاد لا تزال آثارها ماثلة حتى الآن. خلاف على الأولويات في إقرار الموازنة. كان المفترض أن تكون بداية التغيير العملي على قول التغييريين في إقرار الموازنة في موعدها في الحكومة، ثم تحويلها إلى المجلس النيابي لإقرارها أيضاً في موعدها الدستوري، واعتبار ذلك بداية تصحيح للسياسة المالية التي اعتمدت في لبنان على مدى "السنوات الحريرية" السابقة، كما يسميها أصحاب هذه الفكرة. الموازنة لم تقر في موعدها في مجلس الوزراء، ولم تصل إلى مجلس النواب. والسبب، الخلاف على مبدأ تمويل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان. هذا الأمر فتح باب خلاف قديم جديد. وهو إنفاق حكومات الرئيسين فؤاد السنيورة، وسعد الحريري الذي اعتبر مخالفة كبرى. واليوم حكومة ميقاتي تنفق بنفس الطريقة وينفق فيها الذين اتهموا السنيورة والحريري بالطريقة ذاتها. وخلاف آخر قائم حول التعيينات الإدارية في البلاد، بين مكونات الحكومة الأساسية بسبب رغبة البعض بمصادرة أو احتكار كل التعيينات في المواقع الأساسية وهو أمر لا يحتمله البلد. ويضاف إلى ذلك، اتهام رئيس الحكومة من قبل فريق أساسي فيها بأنه لا يريد الإصلاح، وبأنه يتصرف مذهبياً. ويذهب هذا الفريق إلى انتقاد حلفائه لأنهم يغطون رئيس الحكومة نظراً لحاجتهم له اليوم. وهذا الأمر يؤخر إقرار أمور كثيرة، أو الإقدام على خطوات متقدمة في عمل الحكومة. وإلى جانب هذه العناوين، ثمة تخبط في إدارة شؤون البلاد الاجتماعية والمالية والاقتصادية، فيها من التسّرع والخفة والارتجال ما خلق مشاكل كثيرة. فظهرت الحكومة ومن خلالها أو ورائها الأكثرية أنها تغرق البلد في مشاكل كثيرة، لكن ذلك لا يعني أن المعارضة هي في أفضل حال. فهي أيضاً تكاد تكون معارضات، أو استعراضات لمواقف انفعالية عرضية أو مركزة على قضايا لا تحظى بالأهمية أو بالأولوية قياساً على خلفية مواقفها أو توجهاتها الأساسية. وإذا حصل هذا الأمر فليس ثمة إدارة سياسية وإعلامية لدى هذه المعارضة. وبالتالي أزمات كل فريق تغذي حسابات ومواقف وحضور الفريق الآخر. فيكملان الأزمة ولا نرى باباً للحل. والحوار الذي ينبغي أن يكون مفتوحاً بين اللبنانيين هو مادة خلاف. كل طرف يضع برنامجاً وشروطاً للقاء الطرف الآخر. نعيش حالة من الترهل ومحاولات الإقصاء والإلغاء والتشفي والازدراء والانتقام والانتقاد والتخوين والاتهام بين القوى السياسية الأساسية، ما يضعف الجسم السياسي اللبناني أكثر فأكثر. أما الدولة ومؤسساتها فحدث ولا حرج. أخطر ما نشهده في هذه المرحلة هو تراجع فكرة الدولة. فعلياً، في الممارسة السياسية وفي الخطاب لا تجد مكاناً لفكرة الدولة ومؤسساتها. هذه حقيقة خطيرة مؤلمة. لا على مستوى الإدارة، ولا على مستوى الأمن ولا على مستوى القضاء، ولا على مستوى القضايا الاجتماعية والاقتصادية والمالية في البلاد. آخر شيء هو الدولة، وهذا يعني احتمال الدخول في فوضى كبيرة لا نجد ناظماً في مقابلها للعلاقات بين اللبنانيين ولا مرجعية تجمع ولا مؤسسات تحكم وفق القوانين. وكان ينقصنا في هذه المرحلة، ارتجال وتسرّع وترف بعض المسؤولين المتوهمين بإمكانية إقرار قانون الانتخاب، وهو الذي يقرر مصير القوى السياسية في البلاد. فوقع خلاف كبير بين القوى المكونة للحكومة. وخلاف بين بعضها والمعارضة أو أحياناً بعض المعارضة. والغريب العجيب أن الذين يتحدثون عن قانون انتخاب عصري، يعتمد النسبية ويعتبرونه مدخلاً إلى إصلاح سياسي حقيقي في البلاد يخرجها من دائرة المذهبية والطائفية هم أنفسهم الطائفيون والمذهبيون ومحولو المؤسسات في الدولة إلى محميات ومزارع مذهبية تابعة لهذا أو ذاك، وهم أنفسهم الذين يتحدثون عن استعداداتهم للانتخابات النيابية المقبلة عام 2013 وتركيزهم على الخدمات الإنمائية والاجتماعية من تزفيت طرقات إلى خدمات خاصة إلى توزيع مساعدات، وكل هذا يعني استغلال مؤسسات لمصالح انتخابية فيقضي على إدعاء العمل لقانون عصري وتغيير فكري في النظرة إلى الدولة، كما يقضي على مؤسساتها، وعلى فكرة اعتبارها المرجعية لكل اللبنانيين! وهم أنفسهم الذين يقرّون قوانين في مجلس النواب لا حاجة لها مثل قانون عودة اللاجئين اللبنانيين من إسرائيل لأن بإمكانهم العودة والمثول أمام المحاكم دون قانون، لكنهم كما يقولون أرادوا القانون لأنه يزيد شعبيتهم في بيئة معينة، ويساعدهم في الانتخابات. حتى في قضايا وطنية حساسة مثل هذه القضايا يذهبون إلى صرفها في زواريب الانتخابات. وكذلك قضية "الكوتا" النسائية في قانون الانتخابات. والسبب أن الذين يشكلون اللوائح هم مجموعة من الرموز، ليس ثمة قانون يمنعهم من ترشيح المرأة. وليس ثمة قدرة فوق قدرتهم، فلماذا لا يختارون المرأة؟ كل هذه العوامل أدت إلى مزيد من الخلاف. والحدث الأبرز هو الحدث السوري. تخبط في المؤسسات الأمنية في التعامل معه. يقولون صباحاً تهريب سلاح ثم ينفون بعد أيام. يغرقون في تعقب هذا أو ذاك ولا حقيقة ولا حق يظهر.. ولا مسؤول يعلن موقفاً. يخطف أو يختفي هذا أو ذاك وأي معلومة من المؤسسات الأمنية أو من إحداها هي موضع شك وخلاف. لا وضوح ولا موقف. نأي بالنفس عن التدخل وانكشاف في الموقف ذاته وتخبط في التعاطي مع كل متفرعات وانعكاسات الحدث. البعض لا يزال يتملق. البعض الآخر خائف. البعض الثالث مساير ومتربص. البعض الرابع يتصرف أنه ينتظر ومغلوب على أمره. والمعارضة تذهب بعيداً في مواقفها وإلى حدود غير واقعية. والحدث السوري قد يترك آثاراً سلبية كبيرة على لبنان إذا تطور وطال أمده. ويترافق هذا الأمر مع خلاف على المقاومة وسلاحها وخلفياتها دون أي موضوعية أو منطق علمي متكامل في النظرة إلى هذا التعامل. يتحول الأمر إلى تحدٍّ من هنا وهناك وإلى تمترس خطير وراء المواقف والدخول في لعبة المحاور الإقليمية والأمم ونحن الطرف الأضعف ... إذا كنا موحدين فكيف، ونحن في حالة الانقسام هذه؟ في هذا الوضع أثبت اللبنانيون اندفاعاً للتصويت لمغارة "جعيتا" لتكون إحدى عجائب العالم. التصويت والحركة والاندفاع كان استثنائياً. حدث كبير اجتمع حوله اللبنانيون. في "جعيتا"، أو من "جعيتا البلدة" خرجت أو ولدت عجيبة وصلت إلى هذا الحد من العالمية والتوحد اللبناني حولها. لا أدري إلى متى سنبقى ننتظر لنرى عجيبة توحّد اللبنانيين حول مصيرهم المهدد مجدداً. ونراهم مدركين للخطر ومستفيدين من تجارب الماضي؟ الله أعلم. غازي العريضي وزير الأشغال العامة والنقل اللبناني