جادلت في المقال السابق بأن الأنظمة الخليجية الوراثية تمتلك شرعية تاريخية لم تمتلكها الجمهوريات العربية التي ثارت شعوبها ضدها في ثورات "الربيع العربي" رافعة شعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، ذلك أن الأنظمة الخليجية ارتبط وجودها بشكل الدولة الحديثة، كما أضفت عنصراً آخر يحصن هذه الأنظمة من ثورات شعوبها ضدها مطالبة بإسقاطها وهو عنصر إنسانية هذه الأنظمة مقارنة -أكرر مقارنة- مع جمهوريات البطش الوحشي العربية التي عرفتها شعوبها منذ منتصف القرن الماضي وحتى يومنا هذا. وقد لاقى ما كتبته استحساناً واستهجاناً في نفس الوقت، وما يهمني هنا هو الاستهجان الذي ركز على أن الثروة النفطية هي التي تغطي عيوب الأنظمة الخليجية، وتخدر الناس وتشتري ولاءاتهم، وتحمي هذه الأنظمة من ثورات الربيع العربي. وهو جدل قد يكون مقبولًا لو أنه صح في حالة جمهوريات البطش العربية، ففي العديد من الأنظمة الجمهورية القمعية ثروات هائلة لم تحافظ عليها، ولم تعمل على توزيعها بشكل "يضمن" الولاء الشعبي مثلما في دول الخليج -كما يدعي المستهجنون. فصدام حسين دمر ثروات للشعب العراقي تقدر بمئات المليارات من الدولارات في حروبه ومغامراته، وكان منظر الأموال النقدية التي بثتها شاشات التلفزيون لمئات الملايين من الدولارات في قصور صدام حسين مهولاً لتكدسها عند الرئيس الذي يعيش شعبه على المعونات الغذائية. ومثلها كان منظر العملات بدرجات صعوبة مختلفة: عملات صعبة وأخرى سهلة من ملايين تكدست في واحد من قصور الرئيس التونسي الهارب زين العابدين بن علي. ولم توقف الثروات النفطية الهائلة بليبيا شعبها عن الثورة ضد زعيمها المقتول معمر القذافي، وها هو رئيس حكومتها المؤقتة يناشد العالم إطلاق سراح أموال "ملك الملوك" المجمدة في بنوك العالم التي قدرتها صحيفة "واشنطن بوست" بمائتي بليون دولار، غير تلك المليارات التي ضاعت هباءً منثوراً في حروب العقيد العبثية من الفلبين إلى دارفور، ومليارات تلاشت في مشاريع "خبل" مثل مشروع النهر العظيم الذي صرف عليه مليارات تضاربت أرقامها لاستنفاد مياه جوفية يمكن أن تكون احتياطاً استراتيجيّاً في بلد صحراوي يعيش على البحر المتوسط الذي يمكن أن يكون مصدر مياه محلاة بتكلفة أقل من تكلفة النهر العظيم بكثير!! وإذا كان اليمن بلداً شحيح الموارد، فإن الأمر كذلك بالنسبة لكوريا واليابان وسنغافورة وغيرها، ولكن برامج التنمية هناك حولتها إلى معجزات اقتصادية، وهو ما لم يحدث في اليمن طيلة ثلاثين سنة حكم فيها العقيد علي عبدالله صالح، بل لم يتطور العقيد نفسه، ولم يترق إلى رتبة أعلى -مثله في ذلك مثل عقيد ليبيا الذي بقي على رتبته العسكرية طيلة أكثر من أربعين عاماً على رغم أنه صار "ملكاً للملوك"؟ وتقودنا المقارنة للنموذج السوري الذي لا أحد يعرف بالضبط كمية النفط المنتج فيه ولا عوائده، وعلى الرغم من حكم "البعث" لسوريا طيلة العقود الخمسة الماضية، فلا زالت الكهرباء تتقطع في كبريات مدنها، ناهيك عن تلاشيها في أريافها وضيعها. وهنا سؤال آخر: لمَ لم يرفع متظاهرو الأردن والمغرب شعار إسقاط النظام على رغم أنهما نظامان غير نفطيين؟ إن الأداء الاقتصادي لدول الخليج النفطية، لا يعفيها من النقد ولا يجعلها محصنة فوق الانتقاد، ولكن واقع الحال يعكس أنه على الرغم من كل ما قد يقال عن الفساد وسوء إدارة الثروات النفطية، إلا أنها "ممتازة" مقارنة -أكرر مقارنة- مع عبث ضياع الثورات في الجمهوريات البطشية العربية التي تمتلك أكثر مما تمتلكه دول الخليج من ثروات.